فيه غير من نبت بهم طرائق الكسب المألوفة، أو من لم يحظوا منها بما يقوم بحاجاتهم
مضى الأمر واحترف عبد الرحمن التمثيل فكانت بداية ملحمة جديدة قوامها نزول شاب مثقف عامل مستكمل لمقومات شخصيته الاجتماعية الرفيعة إلى عالم ضليل لا يصول فيه غير المكابر، ولا تطولفه غر قامة المشاغب والمداجي والعريض الصوت والمنكبين، عالم تحيط به الريب والشكوك، ويغلفه الكثير من سوء الظن، نزل إليه عبد الرحمن بأقدام ثابتة، يَعمُرُ قلبه عقيدة راسخة بأن المسرح كالمسجد يؤمر فيه بالمعروف وينهى عن المنكر
نزل وملء حواسه إيمان صادق بأن المسرح المصري الناشئ لن يرقى ولن يؤدي رسالته في التثقيف والتهذيب، ما لم يتوله جماعة على قسط وافر من الثقافة والتهذيب، وما لم يشرف عليه من يعيش له لا من يعيش منه، وما لم يكفله الكفيل الصالح
كان عبد الرحمن محامياً في نظارة الأوقاف، وكان يتقاضى مرتباً شهرياً ثابتاً قدره أربعة عشر جنيهاً، فرضى أن يعمل ممثلاً بمرتب قدره أثنا عشر جنيهاً في هيئة غير ثابتة في فرقة تسير - كما سبقتها الفرق التي تقدمتها - مضطربة حائرة، كسفينة هزيلة البناء في بحر عجاج، وفي هذا ما ينهض دليلاً على أنه لم يحترف التمثيل ليزداد مرتبه، أو ليجمع مالاً عجز عن جمعه في حرفة المحاماة
ومثل عبد الرحمن أدواراً سجلت مواهب الممثل في نسقها العالي؛ ودوّي مجده دوياً أخذ على هواة التمثيل مشاعرهم، فتحركت نفوسهم، وتطلعوا وتتطلع غيرهم ممن أخذوا يعرفون محاسن التمثيل على يد المحامي الممثل، وقامت فرقة جماعة أنصار التمثيل تعمل للفن برياسة المرحوم محمد عبد الرحيم الذي كان يشغل وظيفة أستاذ بالمدارس الثانوية
ولكن عبد الرحمن اضطر بعد شهور - ويا للعجب - أن يترك فرقة أبيض مرفوع الرأس، لأن النزعة المادية كانت تغلب كثيراً نزعة الفن الخاص لدى بعض مديري الفرقة المصرية، فتأذت نفسه من ذلك وفترت آماله. . .
وعاد إلى المحاماة الحرة في مكتب أنشأه بمدينة الفيوم لقي فيه نجاحاً كبيراً. وهكذا عاد النازح إلى بيته واستقر فيه، وحسب الناس أن مغامرة عبد الرحمن في احتراف التمثيل إنما كانت بدوة من بدواة النفس الفتية
يا للهاتف الغامض الذي ينادي النفس فتلبي النداء، ويُغلّبُ القلبَ على الحجا والرواية؟؟