ورجع عمر سري بك إلى قصره العاجي ينفض عن أقدامه غبار طريق شائكة بعد أن ضاق ذرعاً بالفرقة وبنفسه، وبقى عبد الرحمن واقفاً مثبتاً في حلبة الجهاد رجله، وليس لديه ما يدفع عنه غائلة الأيام، بل وآلام الحاجة والضيق إلا قلب كبير يعمره الإيمان بالله، وبالمبدأ، وبالفكرة العاملة
أيتها الحاجة، أنك قاسية!
أيها الجوع أنك كافر، إنك كافر!
ولكن يشاء الله أن يسكب في نفوس أصفيائه من البشر ما يجعلهم يزدرون بالمحن، فتراهم يدفعون الحاجة بالصبر، ويستعينون على الجوع بالكفاف من العيش.
وقف عبد الرحمن هذا الموقف الرائع، فتجلى عناد التصميم وثبات العقيدة وجلال الرجولة في اكمل معانيها.
كان في وسعه أن يعود إلى المحاماة، أو أن يلتحق بوظيفة حكومية تقيه شر ما يلقي. كان سبيل الخلاص ممهداً أمامه، ولكن عبد الرحمن أبى أن يفعل شيئاً من هذا، لأن رسالته في المسرح المصري لم تكن قد تمت فصولها، وصاحب الرسالة مجاهد وشهيد، والشهداء يأبون إلا أن يكونوا شهداء وقد يكون خلاصهم بين أيديهم.
وسرعان ما انتهى دور الاستجمام والتفكير إلى دور الوثوب والعمل. فألف عبد الرحمن فرقة تمثيلية باسمه، على نظام الحصص وهو نظام جديد، يقضي بتوزيع قدر من الدخل الوارد من أيراد الحفلات تبعاً لما خصَّ به كل ممثل أو ممثلة.
فلا مرتبات ثابتة، ولا أجور مقيدة.
كان تأليف هذه الفرقة حدثاً جديداً في المسرح المصري، لأنها لم تتألف من أنقاض الفرق العاملة، وإنما تألفت في جملتها ولا سيما في عنصر الرجال فيها من شباب جدد مثقفين، ينتمون إلى بيئات اجتماعية لم تسخ بأبنائها على التمثيل، جمعت الفرقة الجديدة الموظف الذي هجر وظيفته، والطالب الذي قطع دراسته العالية أو الثانوية، اجتمعوا كلهم في صعيد واحد، بعد أن أنضجتهم الهواية الصادقة بالعمل في الجمعيات التمثيلية، اجتمعوا بعد أن ترسموا طريق الفداء الذي شقه الزعيم المجاهد عبد الرحمن فضحى كل منهم بما كانت