تحركه إلا نغمات الناي يرسلها الرعاة من أعلى الجبال فتنساب بين الوديان أو تطفو على سطح المياه وكأنها من روح الله، ونفذ كل ذلك إلى قلب (جراي) فقيد (بيومياته) التي طالما باركناه أن تركها لنا دليلاً يأخذ بنا إلى حيث نرجو أن نجد الجمال
وكرت الأيام و (جراي) يطهر من نفسه إلى أن بلغ ولعه بالمثل الأعلى تلك الدرجة الجميلة التي نجدها عند الكثير من هؤلاء المطهرين الذين لا يزال إنجلترا تغص بهم رغم وفرة من ترحلّ منهم إلى أمريكا حيث وجهوا النفوس هذا الاتجاه الذي أنتج أمثال (نلسن) ممن بلغ بهم الإيمان بالمثل الأعلى مبلغ السذاجة المقدسة
وما كان جراي بحاجة إلى روسو ليحنو على الضعفاء أو ليقدر سذاجة النفوس قدرها، وفي نفسه وفي ملابسات تلك النفس ما يقوده إلى حيث انتهى في تلك المرثية الخالدة التي كفلت للشاعر الخلود، والتي لم تكد تنشر سنة ١٧٥٠ حتى تناقلتها جميع الألسن، وحتى أخذت الأمهات أطفالهن بحفظها كما نفعل نحن ببعض آيات كتابنا الكريم، وأكبر ظني أنه حتى اليوم لا تزال تلك القصيدة أكثر القصائد انتشاراً بين القوم في جميع أنحاء إنجلترا
قال (جراي):
١ - دق ناقوس المساء ينعى النهار المدبر، وانسابت القطعان متهادية ثاغية خلال المروج، واتخذ الفلاح المضني سبيله إلى مأواه في خطى متثاقلة مخلفاً العالم لي وللظلام
٢ - وتضاءل ما بقى من ضوء خفيف، فامحت من البصر آفاق الطبيعة، وأخذ سكون رهيب يسود الفضاء فلا تسمع إلا الجعل يرسل دوي أجنحته في كل فج، أو أجراس القطعان تنهنه ما انبسط من مروج تنشر فوقها غفلة الكرى
٣ - أو نعيق البومة المحزن يحمل إليك من برجها النائي وقد كساه متسلق النبت ما ترسله من شكوى إلى القمر إذ مر بمأواها العتيق الموحش عابرو السبيل فأقضوا منها المنام
٤ - تحت هذا النّشم والى ظلال هذا السرو سكن أجداد القرية في نومهم الأخير، كل في قبره الضيق حيث ترتفع تلك الكثبان المنهارة وقد علاها ضعيف الحشائش
٥ - رقدوا في متواضع مضاجعهم رقدتهم الأبدية، فما لنسمات الصباح العطرة، وما لتغريد النغير يرسله من أسقف أكواخ العشب، وما لصياح الديك النافذ، أو لما يتردد صداه من صوت البوق، أن يوقظ لهم رقدة