للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فجعل - كما يصف نفسه ويصف خصمه - يكرع في الجفان، ويسرع إلى الرغفان! ويمعن في الألوان! والخوارزمي يتناول الطعام بأطراف الأظفار! فلا يأكل إلا قضماً، ولا ينال إلا شمّا!

وقد بلغ من جفوة البديع وتحجر مشاعره أنه لم يرع للطعام حرمة! فاتخذ خصمه هزئا وسخرية! وتناوله بفنون من التندر اللاذع حتى استكفَّه الوزير بقوله: قد ملكت فأسجح

ولما قام الخوارزمي عن المائدة - وقد خنقه تبريح الغيظ - قال للبديع: لأتركنك بين الميمات. قال: ما معنى الميمات؟ قال: بين مهدوم، مهزوم، محموم، مرجوم، محروم! فقال البديع: وأتركك بين الميمات أيضاً: بين الهيام، والصدام، والجذام، والحمام والسَّام، والزكام، والبرسام، والسقام! وبين السينات: بين منحوس، منخوس، منكوس، معكوس! وبين الخاءات. من مطبوخ، ومسلوخ، ومشدوخ، ومفسوخ، وممسوخ! وبين الباءات: بين مغلوب، مسلوب، مرعوب، مصلوب، مركوب، منكوب، منهوب، مغصوب!

ثم انفض المجلس وخرج البديع تحفه هالة من أصحاب الشافعي السٍّنية، يتبارون في تعظيمه وإجلاله! ويوسعونه ضماً وتقبيلاً!

وقبع الخوارزمي في مكانه حتى غربت الشمس، فعاد إلى داره كسير القلب خافض الطرف كاسف البال!

وكان لهذه الهزيمة وما لابسها من تألب بلده عليه، وخذلانهم له، وقع شديد على نفسه! فدلفت إليه العلل، وألحت عليه الأوجاع، فلم ينقض الحول حتى وافته المنية في شوال سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة هـ ـ

ومن الغريب أن اعتلاله لم يخفف من حقد خصومه عليه! فكتب بعض سفْلتهم إلى البديع يهنئه بمرضه! فرد عليه البديع بكتاب ليس فيه مسوح الرهبان، ومرقْعات الصوفية! ومن الإنصاف. أن نشيد بما انطوى عليه من أريحية ونبل ولعل مرد ذلك إلى الصفاء الذي يعاود النفوس بعد أن تهدأ فورتها، وتنجلي عنها غشاوة الباطل! فتوقن أن المجد كله لله والعزة له جميعا! ولعل مرد ذلك أيضاً إلى أن الظفر بالقرن يٍحلّ الضغينة ويمحو غليل الصدور، بل يستحيل - على تراخي الأيام - إلى عطف ورثاء! وشواهد التاريخ على ذلك كثيرة

<<  <  ج:
ص:  >  >>