للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قال البديع في كتابه: الحرٍّ - أطال الله بقاءك - لاسيما إذا عرف الدهر معرفتي، ووصف أحواله صفتي، إذا نظر، علم أن نعم الدهر ما دامت معدودة فهي أمانيّ، وإن وجدت فهي عواريّ، وأن محن الأيام - وإن مطلت - فستفد، وإن لم تصب فكأن قد، فكيف يشمت بالمحنة من لا يأمنها في نفسه، ولا يعدمها في جنسه، والشامت إن أفلت، فليس يفوت، وإن لم يمت فسيموت. وما أقبح الشماتة بمن أمن الأمانة، فكيف بمن يتوقعها بعد كل لحظة، وعقب كل لفظة، والدهر غرثان، طعمه الخيار، وظمآن شربه الأحرار. فهل يشمت المرء بأنياب آكله؟ أم يسّر العاقل بسلاح قاتله؟ وهذا الفاضل - شفاه الله - إن ظاهرناه بالعداوة قليلاً، فقد باطناه ودا جميلاً. والحر عند الحمية لا يصطاد، ولكنه عند الكرم ينقاد، وعند الشدائد تذهب الأحقاد. فلا تتصور حالتي إلا بصورتها من التوجع لعلته، والتحزن لمرضته. وقاه الله المكروه، ووقاني سماع المحذور فيه، بمنّه وحوله، ولطفه وطوله!

ولما مات الخوارزمي رثاه البديع، ولعله اقتدى في ذلك بجرير في رثائه للفرزدق قال:

حنانيْك من نفَس خافت ... ولبيْك عن كمد ثابت

تحمّلت فيك من الحزن ما ... تحمّله ابنُك من صامت

حلفتُ: لقد متَّ من معشر ... غنيِّن عن خطَر المائت

يقولون: أنت به شامت ... فقلت: الثرَى بفم الشامت

وعزَّت عليَّ معاداته ... ولا مُتَدارَك للفائت

ورثاه أبو الحسن الرقماتي فأحسن وأساء:

مات أبو بكرٍ وكان امرأَ ... أدْهَم في آدابه الغرِّ

ولم يكن حُراَّ ولكنه ... كان أمير المنطق الحرّ

ورثاء البديع للخوارزمي قد يصور لنا طَرفاً من الحرقة واللوعة التي يجدها النظير لفقد نظيره! ولكنه لا يكشف عن شيء من فضائل المرثي كما هي سنة الرثاء، حتى لقد قال بعض النقاد: إنه لم يخل من الدس والسعاية!

ومهما يكن من شيء فقد كان البديع أكرم نفساً وأسنى طبعاً وأعف بياناً من الصاحب بن عباد الذي قال حين بلغه موته:

أقول لركْب من خُراسانَ قافل ... : أمات خُوارزْميكم؟ قيل: لي نعمْ

<<  <  ج:
ص:  >  >>