أرقى حضارة من سكان سائر الأقاليم. أما ما يليه شمالاً وجنوباً فدونه منزلة، وما يلي ذلك اقل صلاحاً نظراً لشدة الحرارة أو لشدة البرودة. .
والاقليم الرابع الذي عناه ابن خلدون هو الواقع بين دائرتي العرض الثلاثين والاربعين. . . وفيه الاندلس وبلاد المغرب وايطاليا ومصر وسوريا والعراق وايران. وقد ذكر ابن خلدون صراحة أن الاقليم السادس قليل العمران. وهواؤه لا يبعث على الحضارة. مع ذلك ففي هذا الاقليم السادس بالذات يقع معظم بريطانيا العظمى علام يدل هذا كله؟
إنه يدل دلالة صريحة على أن كلا الكاتبين لم يبن حكمه على فهم صحيح لطبيعة الهواء وتأثيره في العمران. بل كل ما فعله أن نظر إلى العالم الذي يعيش فيه، والى الأفكار المختلفة التي نالت في عصره حظاً وافراً من الحضارة. وحكم بأن هواءها أحسن الأهوية، وأقليمها أطيب الأقاليم. رأى ابن خلدون أن العمران في عصره واقع في بلاد كلها في الاقليم الرابع، فحكم بأنه أكثر الاقاليم ملاءمة؛ ورأى هنتنجتون ان انكلتره واليابان في مقدمة دول العالم اليوم فحكم بأن هواء انكلترة خير هواء. ومتى أتيح للأقطار الاستوائية - أن تنهض قريباً أو بعيداً، فسيرى الناس ابن خلدون آخر ينادي بكل جرأة أن الأقطار الأستوائية، المغضوب عليها في الوقت الحاضر - هي أبدع وأزهى وأزهر الأقاليم ذات الحضارة والعمران.
ومن غريب أحكام ابن خلدون ما ذكره في حكمه على أهل السودان بأنهم موصوفون بالخفة وكثرة الطرب وحبهم للضحك بسبب حرارة الهواء، ولو بقى ابن خلدون إلى وقتنا هذا لأدهشه أن يعلم أن من أكثر الناس خفة وضحكاً الاسكيمو سكان الجهات القطبية! وشبيه بهذا ما ذكره المقريزي في حكمه على أهل مصر مما ذكره الاستاذ أحمد أمين: من أن البيئة المصرية قد أثرت تأثيراً سيئاً في كل ما بمصر من إنسان وحيوان. ومما ظنه حجة علينا أن الأسد لا يعيش في مصر. وهذا صحيح. ولو كان الأسد في مصر يوما من الأيام لكان العمران وحده كفيلا بابادته والقضاء عليه كله أبيد التمساح من نيل مصر. ولكن من يخبر المقريزي رحمه الله بأن بلاد الانكليز ليس فيها أسد، وليس فيها من الوحوش الضارية سوى الانسان. وكذلك الحال في الجزء المتمدن من أمريكا وفي معظم أوربا؟
تلك العبارة البادية السخف هي من فصل طويل للمقريزي مملوء بالعبارات الكثيرة في ذم