أظننا، بعد أن عرضنا للحقوق في نشأتها وتطورها، نستطيع أن نفصل في تلك الخصومة المشهورة المتصلة بأصل فكرة الحق وطبيعتها؛ والأخلاقيون، كدأبهم في المسائل العامة والقضايا الكلية، إزاء هذه المشكلة فريقان: فريق مثالي ينظر إلى الحقائق من حيث هي ويصورها بصورها العليا سواء أطابقت الواقع أم لم تطابقه، وفريق آخر واقعي يعتد بالأمور الملموسة ولا يعول إلا على الحس والتجربة، ويرى الفريق الأول أن الإنسان من حيث هو إنسان يستلزم طائفة من الحقوق ثابتة على اختلاف العصور والأزمنة لا تخضع لبيئة ولا لمجتمع، فهي حقوق أقرها العقل واقتضتها الطبيعة دون أن تتقيد بالحياة الاجتماعية أو تتأثر بها، وأما الفريق الثاني فيذهب إلى أن فكرة الحق مكتسبة لم تصل إلى كمالها إلا بعد أن مرت بأدوار عدة وتأثرت بعوامل مختلفة، فليس ثمة حقوق مقدسة لذاتها، ولا مبادئ أقرتها الإنسانية بصرف النظر عما يترتب عليها من أثر، والحقوق الطبيعية المزعومة لا يؤيدها الواقع في شيء، وإذا شئنا أن نوضح فكرة الحق توضيحاً تاماً فلابد أن نلم بهذين الاتجاهين، ونلقي نظرة على هاتين النظريتين
ليست النظرية المثالية حديثة العهد، فهي ترجع إلى القرن السادس عشر، ويأبى أنصارها إلا أن يصعدوا بها إلى التاريخ القديم فيتلمسوا لها أصولاً لدى مشرعي الرومان وبعض فلاسفة اليونان؛ ومُضي المدة كان ولا يزال وسيلة من وسائل ترجيح طرف على آخر. بيد أنها لم تبد في ثوبها الكامل إلا في القرن السابع عشر والثامن عشر لدى كثير من المشرعين والأخلاقيين وفي مقدمتهم الفقيه الهولندي (جروسيوس) والأخلاقيان الكبيران (روسو وكانت) ثم جاءت الثورة الفرنسية فأخذت بها وأعلنت حقوق الإنسان تطبيقاً لها وعول عليها نابليون كل التعويل في وضع قانونه المشهور. وما إن ظهر المذهب الواقعي الذي نادى به (أوجست كونْت) في القرن التاسع عشر وأيده فيه علماء الاجتماع الآخرون حتى أخذت في التضاؤل والتراجع وأصبح الفقهاء والأخلاقيون يشكون في قيمتها العلمية
وتتلخص هذه النظرية في أن العقل الإنساني يقضي بطائفة من الحقوق أقرها الناس أو لم يقروها، فهي ثابتة للأفراد على السواء ولا تسقط بمضي المدة، ومحاربتها في جيل من الأجيال لا تقوم دليلاً على بطلانها، كبعض الفضائل السامية التي لم يستطع أفراد بيئة ما التحلي بها. وهذه الحقوق، فوق أنها عقلية، طبيعية أيضاً، فهي ثمرة من ثمار الطبيعة