وذهب العلامة الفنلندي وسترمارك إلى ما يقرب من هذا الرأي حيث يقول في مؤلفه:(إن وجوه الشبه بين صيام رمضان وصيام الثلاثين عند الحرانيين والمانوية لتحمل على الجزم برجوعهما إلى أصل واحد. فلابد إذن أن يكون محمد قد نقل صيامه عن الحرانيين أو عن المانوية أو عنهما معا)
وهذه لعمري شنشنة عرفناها عن معظم من تصدى من الفرنجة لبحث عقائد الدين الإسلامي وشعائره، فتراهم قبل أن يفهموا الموضوع الإسلامي الذي يتصدون لدراسته حق الفهم، يوجهون كل همهم إلى البحث عن نظير له في الشرائع الأخرى، ولا يلبثون أن يعثروا عليه حتى يوحي إليهم تعصبهم أن هذا منقول عن ذاك، ثم لا تعوزهم الحيل والمنافذ لإلباس أهوائهم ثوب الحقائق
ومع أن المقام لا يتسع لرد مفصل على ما زعموه بصدد صيام رمضان، فإن في النقط المجملة الآتية ما يكفل نقض مزاعمهم هذه من أساسها:
(أولاً): لم يحدث في الجاهلية أي اتصال فكري أو ديني بين قريش التي نشأ فيها الرسول وبين الصابئين أو المانوية، وقد حال دون هذا الاتصال أمور كثيرة، ومنها اختلاف اللغة والخط والثقافة والحضارة، ومنها بعد المسافة بين مواطن هؤلاء وأولئك، فقد كانت بلاد الصابئين والمانوية في حدود فارس من الغرب على حين أن القرشيين كانوا يقطنون الحجاز والمواطن المتاخمة له، وكانت أسفارهم التجارية لا تتجاوز طريقي الشام واليمن، يسلكون أحدهما في رحلة الشتاء والآخر في رحلة الصيف، ولم ينقل عن الرسول عليه السلام أنه اتصل قبل بعثته بأحد من الصابئين أو المانوية أو عني بدراسة شرائعهم أو وقف على شيء منها، وظل هذا حاله إلى ما بعد رسالته بأمد غير قصير
(ثانياً): إن صوم رمضان يختلف اختلافاً جوهرياً في شروطه وقواعده ومقاصده ووقته وطريقة أدائه وحكمة تشريعه عن صوم الثلاثين عند الصابئين والمانوية، فليس بينهما من وجوه الشبه إلا الاتفاق في عدد الأيام وتتابعها؛ وهذه ناحية شكلية من التعسف اتخاذها دليلاً على أن أحدهما منقول عن الآخر. على أنهما يختلفان في هذه الناحية نفسها اختلافاً غير يسير. فالصيام الإسلامي مدته شهر عربي (وهذا الشهر يختلف باختلاف السنين، فتارة يكون ثلاثين يوماً وتارة تسعة وعشرين)؛ على حين أن صيام الصابئين والمانوية مدته