وتتابعت الشهور شهرا في أذيال شهر، والمسلمون في معتقلهم من شعب أبي طالب، لا يجدون ما يغني من جوع ولا من اللباس ما يدفئ من قر، إلا ما يتسلل إليهم في جنح الليل من شيء ليس فيه غناء يرسله إليهم من يرسل من أبناء عمومتهم على حذر ورقبة!
وجاء الموسم، وأَمّ الحجيج من قبائل العرب سوق مكة يسوقون الإبل قد أوقرت طعاماً وبزاً ليبيعوا ويشتروا ويتعوضوا
وطمع المسلمون أن يكن لهم من أولئك شيء؛ فإن هؤلاء التجار العرب في حل مما تعاقد عليه بطون قريش، فإن لهم أن يبيعوا أبناء عبد مناف ما يشاءون من بضاعتهم يداً بيدٍ؛ فما كان لهم في تلك (الصحيفة) الظالمة رأي ولا عقد
ويخرج من يخرج من المسلمين ليشتري زاداً من زاد القوم ويبيعهم مما عنده، ويقف على صُبرة من قمح يهم أن يشتريها، ويبصر به أبو لهب فيقوم في السوق مناديا:
(يا معشر التجار، غالوا على أصحاب محمد حتى لا يدركوا معكم شيئا، فقد غلمتم مالي ووفاء ذمتي، فأنا ضامن أن لا خسار عليكم!)
ويسمع التجار ما قال أبو لهب، فيزيدون على المسلمين في السلعة قيمتها أضعافاً، فيرجع المسلمون إلى أهليهم وما باعوا ولا اشتروا وليس في يدهم شيء يطمعون به؛ ويغدو التجار على أبي لهب فيربحهم فيما معهم من الطعام واللباس!
ومضى عام وعام وأوشك ثالث، والمسلمون حيث حصرهم أبناء عمومتهم من قريش، حتى جهدوا وأشفت نفوسهم على التلف جوعاً وعريا. . .
ويرى محمد ما أصاب أصحابه في سبيل الله، فيثبتهم ويربط على قلوبهم، ويقول:
(لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه؛ ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين، ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله!)
فتهدأ نفوسهم مطمئنين إلى العاقبة!
ويبلغ بهم الجهد، حتى يأكلوا ما يسقط على الأرض من ورق الشجر، وحتى يصنعوا ما تصنع الشاة: لا تجد أكلاً إلا ما تتقمَّم من خشاش الأرض ومن بارض النبت في مسايل الِّلوَى. . .