- إننا ضعاف يا رسول الله، لا قبل لنا بهذه الوحوش الكاسرة، وإن الأذى الذي يصيب المسلمين قد اشتدت وطأته أفلا نأوي إلى داري لنجمع شتات أمرنا ونغيب عن أعين أعدائنا وننتظر فرج الله؟
فأكبر فيه الرسول الرحيم صلى الله عليه وسلم هذه التضحية، وأذن له بإيواء المسلمين.
نشر الفجر البسّام أجنحته اللؤلؤية الخفاقة على أرجاء الكون الغارق في السكون، المجلل بالسواد، الرازح تحت أعباء الوحشة، النائم تحت كلَّة الليل، فاخترقت سُدف الظلام ومزقتها، وأضاءت أرجاء الفضاء الرحيب وأنارتها، واحتدمت المعركة بين الجيشين: جيش الليل الذي أنهكه طول السهر وكثرة السمر، وجيش النهار الذي يملأ بردتيه عزم الشباب وتدفعه الأماني العذاب، وانجلى النضال عن تبدد العتمة وإشراق النور، وأطلت ذكاء من وراء الأفق البعيد الصافي، باسمة طروبا خلابة، وافترت لوهاد مكة وجبالها ودورها عن ابتسامة مغرية جذابة، فابتسمت لها مكة مجيبة شاكرة، ورقصت على جنبات الأفق الوهاج أطياف من السحر والشعر استيقظ الناس على منظرها الخلاب، وبدأت الحياة تدب في أرجاء مكة التي نضت عنها رداء النوم لتستبدل به درع الجد والنشاط، وهب المشركون غاضبين صاخبين مصممين على إفناء هذه الطغمة التي تضم أفراداً قلائل منهم، فتنوا عن عقيدتهم بعقيدة جديدة تقضي على كل ما خلف لهم الآباء والأجداد من آلهة. وليس بعجب أن يقوموا منذ الصباح الباكر يعدون العدة لعملهم السافل الدنيء؛ فلقد كانوا يحلمون في الليلة الماضية - وفي كل ليلة - بهؤلاء الأفراد الذين تحملوا كل أنواع الأذى في سبيل عقيدتهم، ولم يكن يبدو على أحد منهم أنه سينفذ صبره وتضعف مقاومته، كانوا يعجبون لقوة رسوخ هذا الدين الجديد في النفوس وتمكنه فيها واستهانته بكل أنواع الأذى والعذاب في سبيل بقائه سالما، وكانوا يخشون إن هم خلوهم وغضوا عنهم الأبصار ولم يأبهوا لهم، أن يجذبوا إليهم عددا كبيرا من العرب فيصبحوا قوة لا طاقة للمشركين بها.
وراح المشركون يفتشون عن الأفراد الصابئين في الأسواق وفي الساحات العامة، وفي ظل الحرم، وفي دور مكة المجتمعة، ولكنهم باءوا بعد سعيهم بالفشل، ولم يجدوا لهم أثرا، كأن الأرض ابتلعتهم وغيبتهم، فعادوا خاسرين أذلاء كما يعود الجيش مهزوماً مدحوراً. أجل، لقد اختفى المسلمون في تلك الدار النائية القائمة على الصفا، جمعهم رسول الله صلى الله