يدرك هذه الحقيقة، لإلمامه بالموقف الذي غاب عن الروم وقيصرهم ومن هنا كانت المماطلة دائماً من جانب النجاشي والاعتذار عن إمكان تقديم مساعدة فعالة للروم في صراعهم ضد الفرس. فلما اشتد الصراع وبلغ أقصاه سنة٥٤٠ ميلادية، وأرسل جوستنيان رسولاً خاصاً (سفيراً) هو جوليان، اضطر النجاشي مجاملة أن يأمر عامله على اليمن، أبرهة، أن يرسل قسماً من قواته شمالاً على زعم التحرك للتعرض للتخوم الفارسية. والطريق الطبيعي الممتد من اليمن إلى حدود فارس يمر بمكة وينتهي عند وادي الرمة أحد روافد الفرات فيما مضى. ومما لا ريب فيه أن الأحباش اتخذوا هذا الطريق مسلكهم نحو الشمال. غير أن القوات التي أرسلوها حين انتهت إلى الحجاز، كان التعب قد نال منها والمرض قد أفنى معظم رجالها، والجدري فتك بجنودها فاضطر الأحباش أن يسحبوا قواتهم ويعتذروا بخسائرهم إلى الروم، ويقفوا عند هذا الحد. غير أن العرب من سكان الحجاز كان قد هالهم تقدم الأحباش في جيش عرمرم (بالنسبة لهم) ورأوا أنهم يبيتون لهم شراً، فلما أصيبوا بالوباء، ورجعوا، أيقن العرب أن ذلك أثر من تدخل العناية الإلهية التي حفظتهم مما كان الأحباش يبيتونه لهم. وهذا هو المصدر التاريخي الذي حيك من حوله كل روايات العرب عن سفر الفيل
تروي المصادر العربية أن السبب في تعرض الأحباش لمكة يرجع إلى أن أبرهة الأشرم شيد هيكلاً في صنعاء حاضرة اليمن، وذلك بغية صرف الناس عن الكعبة. غير أننا نعلم من المصادر المسيحية أنها لم تشر البتة إلى مسألة بناء هيكل جديد في صنعاء حاضرة اليمن (العربية السعيدة على عهد أبرهة. هذا فضلاً عن أن المؤرخ أوزيب في بحثه عن (تاريخ الكنيسة)، يتناول بالذكر النصارى من العرب وقساوستهم وأصحاب المآثر منهم على الكنيسة، وهو لا يذكر شيئاً عن أبرهة، وعن تشييد هيكل في صنعاء
غير أننا نعلم أن المسيحية كانت منتشرة في نجران، وفي بعض المناطق من اليمن، وأنه كان باليمن قسس من النصارى على عهد حكم الأحباش لها. ولاشك أن هؤلاء القسس الذين يرعون شؤون طائفتهم الروحية، كانوا يتخذون لأنفسهم في حاضرة اليمن هيكلاً، يظهر أنه كان النواة التي حيكت من حولها روايات العرب. هذا، وربما كان الأحباش وهم نصارى اعتنوا بهذا الهيكل وزينوه بما يليق بمكانتهم كنصارى حاكمين للبلاد؛ وربما حمل هذا