توفيق وأخته، هكذا كان يعرفهما ركاب السفينة جميعاً: الملاحون والركاب
ومضت السفينة بهما تشق البحار من الشرق إلى الغرب، ومن الجنوب إلى الشمال، ينعمان بالحب وسعادة اللقاء، لا يظنان أن سيفرق بينهما شئ. وتمازجت روحهما حتى ليس بينها سر، وسالمتهما الليالي. . . ومضت سنوات. . .
وكانا في أحد الموانئ حين جاءت الفتاة برقية بأن أمها تحتضر!.
وكان الفراق؛ وباعدت الحادثات بينهما، ولكنه لم ينس، ولكنها لم تنس؛ فإنه ليكتب إليها وإنها لتكتب إليه!
وفعل به الفراق ما فعل حتى لا قرار له؛ فليس له أمنية من بعد إلا أن يعود ما كان! وتصرمت السنون، والفتى في حنين دائم وشوق لا يُغْلَب!
وحنَّ توفيق إلى أهله، فآثر العمل في شركة مصر للملاحة ليكون جهاده لبلاده؛ ولم ينس (حقيبة الذكريات) فإنها لمعه أين يكون؛ يستروح منها نسمات الحب ويأنس إليها في ساعات الوحشة. . .
ومضت الباخرة (زمزم) تتهادى من ميناء السويس في طريقها إلى (جدة) في ديسمبر سنة ١٩٣٨ وعلى ظهرها الملاح (توفيق) ثم أرستْ، وركب الحجاج الفلك إلى رصيف ميناء جدة، ومعهم توفيق مُحْرِما بالحج
وطاف الحجيج بالبيت ملبين ضارعين، ووقف الفتى حيث بدأ الناس، لا يتقدم ولا يتأخر؛ وحضرته الذكرى فرأى كتابه منشوراً على عينيه بما فيه من خطايا وآثام؛ وهمَّ يرفع رأسه، فما أطاق، كأنما يحمل أوزار السنين على كاهله؛ وتدَّنت عيناه بالدمع. . . وتذكر يوم كان. . . فتى يخطو إلى العشرين، في حارة (قصر الشوق) لا يحمل من همٍ وليس له ماض؛ فترامى على أستار الكعبة نادماً يستغفر، وانهملت دموعه على خديه. . .
وعادت (زمزم) تخطر على ثبج الماء، وعلى ظهرها ركابها مهللين داعين ترف على شفاههم بسمات الرضا والاطمئنان!
وعاد توفيق إلى غرفته من السفينة راضياً مبتسماً طاهر القلب كما كان يوم ركب السفينة أول مرة من ميناء الإسكندرية منذ تسع سنين ليتعلم الملاحة