هو اليوم الأول من أيام آذار، وأيام مصر كلها آذار، فما تعرف بلادنا غير نضرة النعيم في جميع الفصول
ونظرت في الساعة فلم أجد من فسحة الوقت غير خمس دقائق، وهي مدة لا تسمح باجتلاء المحاسن في شارع الجامعة، الشارع الجميل الذي كان يستهويني فأسير فيه بتأدب واستحياء رعاية لحقوق العين والقلب في البقعة التي صارت مراتع ظباء، ومرابض أسود
الله أكبر ولله الحمد!
هذه كلية الآداب التي قضيت فيها مواسم شبابي، يوم كنت فتىً عارم العزيمة يؤذيه أن يقال إن في الدنيا كتاباً لم يطلع عليه، ويوم كنت معمور القلب بأرواح الأماني، ويوم كنت أتوهم أن الجد في طلب العلم لا يظفر صاحبه بغير الإعزاز والتبجيل، ويوم كنت أخال أن الكفاح في سبيل الأدب قد تنصب له الموازين، ويوم كنت أومن بأن الجهاد لا يضيع في هذه البلاد!!!
تقع كليتنا الغالية على يمين من يدخل حرم الجامعة المصرية، جامعة فؤاد الأول. وسميت بذلك، لأن فؤاداً العظيم كان أول رئيس للجامعة المصرية. وكليتنا الغالية لها روح قهار، لأنها شرعت للناس مذاهب التفكير في الآداب والفنون، ولأنها أول معهد في مصر فتح أبوابه لحرية الفكر والعقل بلا تمييز بين العقائد والآراء
كاد الدمع يطفر من عيني حين دخلت كليتنا الغالية، فقد خيل إلي أن أحجارها لا تنطق، وإلا فكيف غاب عني تفصيل ما فيها من حجرات وغرفات؟ وكيف نسيت الأماكن التي كنت ألقي فيها دروسي ومحاضراتي على قرب العهد؟ وكيف غفلت عتباتها عن الوثوب لمصافحتي وقد صحبتها طالباً ومدرساً من سنة ١٩١٣ إلى سنة ١٩٣٧ ودرت معها من ميدان الإسماعيلية إلى ميدان الفلكي، ومن حي المنيرة إلى قصر الزعفران، ثم إلى حديقة الأرمان، ولم يزاحم هواها في فؤادي غير الأعوام التي قضيتها بكلية الآداب في جامعة باريس؟
وزاد في أساي وشجاي أني سأخرج مهزوماً في المناظرة التي تقام بكليتنا الغالية، لأني سأدافع عن رأي جرئ لا يقول به إلا من يخاطر بنفسه فيتعرض لغضب المجتمع. ولكن لا بأس فكليتنا الغالية قد علمتنا الثورة على أوهام المجتمع