ثم أمضي في خطبتي كالسيل الجارف فأفتن الجمهور فتنة ماحقة يضج لها خصومي بتصفيق الإعجاب ليسلموا من سخرية الجمهور الذي سحره بياني
ويميل الأستاذ لطفي جمعة على أذني وهو يقول: أهنئك على أن عرضت سمعتك للأراجيف في سبيل الحق. فأبتسم وأنتظر أن يصنع كما صنعت ليظفر بتهنئتي! وينهض الخصم الشريف فيسلك في تحقيري جميع المسالك، ويدعي أني فوضوي أثيم، وينهي الجمهور عن الانخداع بآرائي، ويعلن عجبه من أن يكون لي كتاب اسمه التصوف الإسلامي في مجلدين كبيرين مع أني من أنصار الفوضى الاجتماعية، ويقضي في تحامله وتجنيه ساعة وبعض ساعة وأنا ساهم مطرق أكاد أذوب من الخجل والحياء
وأعود إلى نفسي فأندم على تعريض سمعتي لهذا الضيم البغيض وأعرف أني أخطأت في قبول المناظرة مع هذا الخصم الشريف، وأعاهد الله على اعتزال الناس إلى يوم الممات. وما الذي يغريني بصحبة بني آدم ولم أر منهم غير شجا الحلوق، وقذى العيون؟
لقد أقمت داري على حدود الصحراء لآنس بظلمات الليل، ولأنسى أنني موصول الأواصر بهذا الخلق، ولأناجي موات البادية حين أشاء، ثم قهرني حب العزلة على أن أغلق نوافذ داري فلا أرى الوجود إلا بأوهام من طيف الخيال
لطفي جمعة الرجل الفاضل الذي أثنيت عليه في خطبتي يقضي في شتمي ساعة وبعض ساعة؟ تلك إحدى الأعاجيب، إن كان النكر في زماننا من الأعاجيب!
أين أنا من دهري وزماني؟ أمثلي يشتم جهرة في كلية الآداب، وقد حملت على كاهلي أحجار الأساس؟
هو ذلك، وعلى نفسي أنا الجاني، فقد عرضت سمعتي للجدال الذي يسمونه مناظرات! وينتهي الأستاذ لطفي جمعة من خطبته بعد أن مزق آرائي كل ممزق، وبعد أن شفي صدره مني، وكانت بيني وبينه ترات وضغائن وحقود
ويعلن رئيس المناظرة أن ليس لي غير خمس دقائق. وما الذي أستطيع أن أصنع في خمس دقائق وقد جرحت أشنع تجريح؟ ما الذي أستطيع أن أصنع وقد سمعت ما أكره في معهد يؤذيني أن أذكر فيه بغير الجميل؟ في خمس دقائق يعرف الأستاذ لطفي جمعة أن لحمي مر المذاق، ويؤمن وهو كاره بأن التطاول على رجل مثلي لا يمر بلا جزاء،