للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

هو. لأنه مثل أعلى يقوم على كلمتين من كلمات الله رب الناس جميعاً وجاعلهم صنوفاً، وأنواعاً وأجناساً، وألواناً كما يصنف البستاني أزهار البستان. . .: على كلمة ناطقة تدور بها الألسنة وتستوحي منها الأفكار، وهي القرآن! وعلى كلمة صامتة مستخفية فيها أسرارها وأوتارها وأشواقها وأوطارها وهي القلب العربي!

وفي الكلمة الأولى اعتمد الله على بلاغة هذه الأمة وفصاحتها وصراحتها في الكشف عن كل مخبوء في الضمير وفي الشعور وفي الفكر وتسجيله بلغة موسيقية موجزة مبينة، وإلقائه على الأسماع والإفهام آيات منزلة من حول العرش. . .

وفيها يضع الله كل شيء في الطبيعة في موضعه أمام الفكر البشري (أنا كل شيء خلقناه بقدر) (أعطي كل شيء خلقه ثم هدى) فلا يجوز الاعتراض والثورة على نظام الكون ومحاولة تبديله (لا تبديل لخلق الله)

وفيها ينظر الله إلى أمم الأرض كأمة واحدة (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون)

وفيها يحطم الله الأصنام الحجرية والبشرية ويسحق (العجل الذهبي) وعباده، ويكسر كل قيد يقيد النفس بالمادة ويجعلها تخلد إلى الأرض وتتخذ الأهواء آلهة وتشبع الشهوات السفلى وتعيش في الأرض في غفلة عن الجمال الأعلى؛ فيخرج الإنسان بعد هذا كله طليقاً حراً قديس الروح نظيف الجسد متجرداً من كل شيء لله الذي أعطاه كل شيء. . .

وفيها يعقد الله بينه وبين الإنسان صلة مبنية على منطق الفكر ومنطق الوجدان، فما يقدره الله في الطبيعة ويحترمه يقدره الإنسان ويحترمه، وما يبغضه الله ويمتهنه يبغضه العقل الإنساني ويزدريه؛ فالعقل البشري صورة مصغرة من العقل الأعلى الذي يدير الكون ويحرسه ويمسكه أن يزول. ألم يقل: (ونفخت فيه من روحي) (إني جاعل في الأرض خليفةً)؟

وبدهي بعد ذلك أن يصدر العربي من بين يدي القرآن الذي يضعه في الحياة هذا الموضع الأكرم الأعلى، وهو معتقد أنه قوة من قوى الله مستخلفة لحراسة الأرض وحراسة النفس والإنسانية من فتن الحياة وقوى الشر ونوازع الإثم، وأن ينظر إلى الناس كما ينظر إليهم الله نظرة رحمة وغيرة على مصالحهم وسعي حثيث لها، لا كما ينظر الملحدون إلى أنفسهم

<<  <  ج:
ص:  >  >>