وإلى الناس نظرة ضياع وحيرة بين القوى العمياء، ولا يعتقدون أن القوة المتسلطة على الكون تأبه لهم أو تقيم لهم وزناً، فهم كذلك لا يقيمون لقوانينها في الطبيعة وزناً، وإنما يدخلون الحياة ويخرجون منها كما تدخل وتخرج السباع إن كانوا أقوياء، أو كما تحيا وتموت الخراف البلهاء إن كانوا ضعفاء
وبدهى كذلك أن تكون هذه الصداقة المعقودة بين العربي ورب الطبيعة مبعث اعتزاز وقوة واعتصام بقوة الذي بنى السماء والأرض، يتحول بها إلى قوة مندمجة في قوى الكون التي في يد الله. وينظر بها إلى ما في السماء والأرض وكأنه ينظر إلى أشياء موضوعة مهيأة له في دار أبيه. . .
أما القلب العربي، وهو الكلمة الصامتة، ففيه حيثما كان وراثات مدخرة من بساطة الحياة في الصحراء واتساعها وعزلة الفكر فيها عن المؤثرات الصناعية، وإشراق النجوم عليها، واحتكاك الفكر فيها بالسماء دائماً، وانطلاق النفس من غير سدود وقيود، واعتداد الإنسان فيها بنفسه، واعتماده على قواه الذاتية، وسبح الخيال وراء المجهولات والغيوب، وتجرد الحياة فيها من الزينة الصناعية والتكليفات الوضعية التي لا تطلق النفس لدواعي الفطرة بل تجعل عليها ركاماً من قيود التقاليد
يضاف إلى هذه الوراثات الاستعداد الدائم لبذل الدم والمال في سبيل الشرف وحسن الأحدوثة، وعدم الارتباط بالأرض إلى درجة التضحية بالحرية والخضوع لسلطة مذلة واستبداد مهدر لكرمات الإنسان وحرمات الحياة. . .
وهذه صفات ترشح قومها لحمل دعوة كالدعوة الإسلامية التي تطلب الدم والمال للوصاية على كل حق في الحياة. ولن تستطيع نفس مترفة معقدة الفكر بتعقد الحياة التي نشأت فيها، معقدة النفس بتعقيد التربية السياسية ذات الأوضاع والقوانين الكثيرة، محبة للحياة حريصة عليها لما فيها من الترف والنعمة، بعيدة عن الطبيعة لأنها عاشت سجينة بين الجدران أو مكبة على عبادة الزراعة والصناعة، مثقلة بالأموال والخيرات الكثيرة فليس لها فراغ للفكر في الكون وربه. . . لن تستطيع هذه النفس أن تحمل ما تحمل النفس العربية من رسالة البساطة والمساواة والرجوع إلى قوانين الطبيعة والنظر إلى أوليات الحياة ومبادئها والتجرد من التعقيد وركام التقاليد