لأولادك من بعدك، لهم الله فلا تحزن، فلم يقبضها حتى عّدها فرآها كثيرة فرد إلي بعضها وقبل بعضاً، فلم ألحف عليه وأخذتها منه وأخذت معها ورقة صفراء أعطانيها لم أدر ما هي، ولكني لم أشأ كسر قلبه بردّها، ووضعت ذلك كله في كميّ وعمدت إلى الكوة لأدخل منها فوجدتها عالية، فوثبت فأصبت بقدمي وجه رجل ممن كان هناك، فما باليته وقلت سأعتذر إليه، وقد رأيت أهل المدن يؤذون إيذاء العدو، ثم يعتذرون اعتذار الصديق. وأدخلت رأسي في الكوة، فصاح السجين صياحاً أرعبني والله، وشبهته بصراخ كلب ديس على ذنبه، وأجلب الناس، وطفقوا يشدون برجلي وثيابي، وأنا أرفس بقدمي رفساً لا أبالي موقعه من أجساد الناس، والسجين اللئيم الذي أحسنت إليه يدفع برأسي ويشد بشعري، ولم يكن عضو من أعضائي إلا وهو مشغول، فيداي أتمسك بهما، ورجلاي أذود بهما عن نفسي، ولم أجد ما أدفع به أذاه عني إلا بصقت في وجهه، فأقبل يضربني فعضضت يده، ثم دنوت من وجهه فعضضت أنفه. . . وكان أنف ذليل لا يزال خبث طعمه على لساني. . .
. . . ثم أخرجوني قسراً جبراً - وجاء مماليك السلطان فحجزوا بيني وبينهم - وأخذوا الورقة الصفراء، وأدخلوني من باب كان هناك إلى بهو واسع صح معه ما كنت قدرت من أن سنمة هذا سلطان البلد، ورأيت الناس قد صفوا كراسيَّهم كصفِّ الصلاة، وإذا بعضهم يولي بعضاً دبره، فقلت: ما ألأم أهل المدن، والله ما كنت مولياً مسلماً ظهري إلا في الصلاة. وعمدت إلى الكراسي لأديره فإذا هو مثبت بمسامير من حديد، فتركته واستدرت أنا، فجلست على قفاه، وجعلوا يضحكون مني، فما ألقي لهم بالاً، حتى جاءت امرأة، فجلست قبالتي، فقلت: يا أمة الله استتري. فأقبلوا يزبرونني، وإذا هي فيما قالوا (شاب) وليس امرأة، فجعلت أعجب. . .
ولبثت أنتظر خروج السلطان فإذا بالمماليك يديرونني فيجلسونني من حيث يجلس الناس، فلم أملك إلا الطاعة، وقعدت أنتظر فلم أنشب أن جاء مملوك آخر، فقدم إلي صفحة من خشب قد صف عليها فراني وشطائر وقال: تريد؟ قلت: أريد والله. . . وهل يأبى الكرامة إلا اللئيم؟ وأقبلت آكل فأجد طعاماً هشَّا تحت الأسنان، حلواً في الحلق، خفيفاً على البطن، فقلت: هذه هي البقلاوة التي وصفوها لنا، وجعلت آكل فلا أشبع، وهو يقدم إلي متعجباً