قيثارته على الأغصان يتسمع بها إيقاع الريح ووسوسة الحصى واصطفاق الأمواج. . .
ثم خلعوا من أوهامهم الشاردة على الحجارة صوراً وتماثيل لمسوها بأيديهم وعبدوها في غيبوبة فكر وثوران قلب وقلة علم
والكهنة والعرافون - وهم الأذكياء منهم - اختلطت في نفوسهم رُؤَى الكون المبهم، وهم محرومون من تعليل العلم وهدى النبوات؛ فصارت الحياة أمامهم رموزاً وألغازاً شردت نومهم وجعلتهم يهيمون في أرض عبقر مع الجن والخفاء والخوف وصرخات الإنسان الضائع الفريد. . .
هؤلاء هم خميرتنا التي انحدرت منها إلينا عناصر ورواسب في الدماء وخصائص في الأعصاب. . .
نزلت في موجات وأنسال وأجيال إلى الهلال الخصيب في العراق ووادي النيل وجنات الشام في أدوار يعرفها التاريخ القديم. . .
هؤلاء هم الذين دائماً تلدهم الجزيرة الولود، ثم تقذفهم على أحضان بناتها و (داياتها): العراق والشام ومصر. ليخففن عنها الحمل ويتعهدن ما تلد. . .
هؤلاء هم الذين كانوا يلقحون دائماً ضعف أوطاننا بالقوة، ومرضها بالصحة، وتعقيدها بالبساطة. . .
هؤلاء هم الذين ولدوا الفراعين من عهد (مينا) في مصر، والآشوريين والبابليين في العراق، والفينيقيين في الشام؛ وهم الذين عمروا العالم القديم. . .
هؤلاء هم الذين ولدوا إبراهيم أبا أنبياء العالم المتحضر، فأخضعوا أشرف ما في الحياة لسلطانهم الروحي المتجدد على أيدي موسى وعيسى ومحمد
هؤلاء هم الذين اكتسحوا في موجتهم الكبرى جميع فروق التي كانت أبناء ما يحيط بهم وطَوْوا الجميع في الدين الواحد واللغة الواحدة والعادات الواحدة
وهؤلاء لا يزالون يعمرون بوادي الجزيرة محتفظين بحياتهم مبعثاً لقوتنا وتخليداً لدمائنا واحتفاظاً بميراثنا وبياناً لعراقتنا في الحرية والمساواة والعزة والفطرة
فواجبنا أن نلقي ببذورنا وغراسنا الناشئة إليهم في دور من أدوار التربية والتكوين لتتصل الطبائع بينابيع القوة. . . فنجعل الحياة معهم فترة من الزمن فرضاً محتوماً على الشباب