للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وصار رجال الدين الحاليون أنفسهم يتمتعون بها ويأخذون بمنافعها كما يأخذ سائر الناس بعد أن كان أسلافهم يصبون عليها شآبيب السخط واللعنات ويحرقون وينكلون بمن يجرؤ على التحدث عنها في الفلتات بعد الفلتات. . .

ومنشؤها كذلك أن رجال الدين منعزلون عن حياة أكثرية الناس لهم لباس خاص ويكادون يكون لهم منطق خاص بهم وحدهم. والحياة الحالية حياة عظيمة السلطان على النفوس تغري جميع بنائها بالاندماج في موجاتها، وتعد من يعتزلها وينأى عنها رجلاً فيه مس ونقص وشذوذ. وكل مخلص للدين مقدر آثاره في الحياة وفقرها إليه وفسادها بدونه، يرى من الخطر أن يظل لرجال الدين ثيابهم الكهنوتية وطقوسهم التي ما أنزل الله بها من سلطان لأنها توهم الناس أن الدين في تلك الثياب والرسوم العجيبة، ويرى من الخطر أيضاً أن يفرق شباب الأمة فئتين: فئة لعلوم الدنيا منذ التعليم الابتدائي وفئة لعلوم الدين منذ التعليم الابتدائي. وليس بين الفئتين مرحلة يسيرون فيها جنباً إلى جنب حتى يتنفسوا في جو واحد ويقيسوا بمقياس واحد. وإذا كان هذا التفريق قبيحاً في أي أمة فهو في الأمة الإسلامية أقبح القبح! لأن الإسلام هو المعيشة بالجسد والروح عيشة متناسبة، وهو دين يجعل التمتع باللذات المحللة عبادة إذا ذكر اسم الله فيها. . . ويجعل خدمة العلوم الدنيوية المفيدة فرضاً يحاسب الله على إهماله، ويطلب من الإنسان أن يعيش عيشة رحبة عميقة بكل قوة في تكوينه. فلماذا التفريق في التعليم وفي اللباس تفريقاً يوحي إلى النفوس بمعان من التعصب والانحياز، ويلقى في روع الناس أن حياة الدين منفصلة عن حياة الدنيا؟!

إن اليوم الذي توحد فيه برامج التعليم في المرحلتين الابتدائية والثانوية في جميع المدارس المدنية والمعاهد الدينية بحيث تحتوي البرامج على التربية الروحية التهذيبية والعلوم المفيدة للجميع. ويوحد فيه الزي بين أبناء الأمة جميعاً سواء أكان عمامة للجميع أم أي لباس للجميع، هو اليوم الذي تصير فيه الحياة الفكرية والروحية مزيجاً مؤتلفة فيه جميع عناصر الحياة اللازمة لكل نفس بدون تكلف أو احتراف. وهذا هو ما كان عند الرعيل الأول من المسلمين في زمن الرسول وخلفائه. فقد كان الرسول جندياً مع جنوده، وعاملاً بيده مع عماله، وعابداً وحاكماً ورجلاً يعيش بجميع قوى جسده ونفسه، يلبس جميع ألوان ثياب قومه، ولم يكن يتميز على أصحابه في شئ من السمات الظاهرة. فمن تبعه صار

<<  <  ج:
ص:  >  >>