للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

يلبس مثله. ولذلك كانوا كلهم في مظهرهم رجال الدين ودنيا يتفاضلون ويتمايزون بالعقل وكثرة العلم لا بالسمات والشارات. فمن كان عنده علم من الدنيا أفتى فيه وبذل منه وعرفه الناس به فقصدوه من أجله، ومن كان عنده علم من الدين أفتى فيه وبذل منه عرفه الناس به فقصدوه. وليس وراء ذلك فارق ما. فلا جرم بعد ذلك ألا تكون هناك شقة خلاف وهوة شقاق بين الدين والدنيا عند المسلمين الأولين بمثل ما هما عند المسلمين المتأخرين الذين ورثوا ميراث هذا الخلاف عن أمم الغرب، وزعم المبطلون أنه أصل عندنا كما هو عندهم

وقد كان من الواجب - لو فطنت الأمم الإسلامية - أن تظل الدراسات الكونية ضمن نطاق العلوم التي تدرس في المعاهد الدينية، كما كان الشأن عند المسلمين في الدولة العباسية والدول التي تلتها إلى أن جاءت نظم العصر الحديث في عهد محمد علي. إذاً لظل العلم بما في الدين وما في الدنيا وحدة غير مجزأة يخرج الإنسان المتحلي بها كامل القلب والعقل تلتقي عنده الثقافات ويمرن على التوفيق بينها، وبناء الحياة الاجتماعية عليها. فما كان عند المسلمين سبب يدعو إلى التفريق في المعاهد وإخراج علوم الدنيا عن نطاق الدراسات الدينية. وقد ظل الأزهر والنجف والزيتونة، وجامع القيروان، ومساجد بغداد، ومعاهد الشام يدرس فيها الفلك والحساب، والرياضيات والطب، والطبيعيات والموسيقى إلى أن أتى العصر الحديث.

وقد كان المتعلم لا يخرج إلا من هذه المعاهد وأمثالها. ولذلك أخذ محمد علي - منشئ دراسات العلم الحديث في البلاد العربية - أغلب أفراد بعثاته إلى أوربا من طلبة الأزهر، إذ كانوا هم الطبقة المثقفة من الشباب. وقد كان بعض العلوم الدينية يدرس في عهد محمد علي في المدارس التي أنشأها للهندسة والطب وغيرهما

ولكن جمود بعض المشايخ في عصر إسماعيل وامتناعهم عن إدخال العلوم الحديثة بنظمها الأوربية في الأزهر، هو الذي جني على الإسلام كما جني عليه امتناعهم عن إنشاء قانون مستمد من جميع مذاهب الشريعة الإسلامية يساير روح العصر الحاضر ويكون منطبقاً على ما جد في الحياة من مشاكل ومطالب. حتى اضطروا إسماعيل إلى فتح مدارس خاصة وإنشاء محاكم تحكم بغير الشريعة الإسلامية

إن الأوربيين اضطروا إلى انتزاع دراسة العلوم الكونية من أحضان الأديرة والكنائس،

<<  <  ج:
ص:  >  >>