المتوحشة التي يضطرم جوها بالصمت المتوهج والوحدة المستعرة. . . كنت أخي وصديقي، وأنا أبيد كما تبيد الأيام والليالي في كهوف الحياة الدنيا. . . كنت أخي وصديقي، وعواطفي تزأر وتجأر في باطني كأنها وحش جريح متألم ثائر لا يرى من جرحه لينتقم. . . فالآن وقد جددت الدنيا أساليب تعذيبي عذاباً ضعفاً من الآلام. . . الآن وقد أوجدتني الحياة ما أريده، ثم وضعت بيني وبينه سداً يصف ما وراءه من أشواقي ويقف دوني فلا أنفذ منه. . . الآن وأنا أشتعل وأتفانى من جميع نواحي. . . الآن وأنا أتوثب في قيود مرخاة تمنحني الحركة وتمنعني دون الغاية. . . الآن وأنا أمزق جو حياتي بزئيري وأنيابي ومخالبي، وأحرقه بوجدي ولوعتي واشتياقي. . .
الآن أين أنت أيها الحبيب؟ يا أخي وصديقي
أنظر إلي - أيها الحبيب - من وراء هذه الأسوار المنيعة التي تفصل بين الحياة والموت. . . الأسوار التي تمشي إليها الحياة كلها ساعة بعد ساعة دائبة لا تقف، فإذا بلغتها ابتلعتها من حيث لا تشعر ولا تتوقَّعُ. . . انظر إليَّ - أيها الحبيب - وتكلَّم بكلامٍ من شعاع مضيءٍ حيٍّ يُفهمُني حقيقتي الحية، ويضئ لعيني هذه الظلمات التي تعتبرك بين يدي في مد عيني. . . انظر إليَّ - أيها الحبيب - وأسكبْ في قلبي وروعي حقيقة الإيمان الحيّ الذي لا يموت. . . أنظر إليَّ واصحبْني فأنا الذي لا يصاحبُ الأحياء من الناس، لأنهم لا يعرفون معنى الحياة إلا فائدة تلد فائدة، كما يلد بعضهم بعضاً في مشيمة من الكره والعنت وآلام المخاض وأمشاجٍ من الدم يشخب من حولها ويتضرجُ ويقبحُ بعضه في بعض
ولكن. . . ولكن ما أكذب النَّفس على النفْس! أنت هناك بحقيقتك الخالدة التي تحيا بأمر الله في جو السماء، وأنا هنا بحقيقتي الفانية التي تموت يوماً بعد يوم بأمر الله في جو هذه الأرض. . . أنت هناكَ وأنا هنا، بينهما البرزخ الذي لا تجوزه الروح إلا بعد أن تتطهر من أدران هذا الدم المتجسِّد في أجلاد الإنسان. . . أنت هناك وأنا هنا، فكيف أنخلعُ من ثروتي التي أنا بها أنا؟ كيف أنخلع من جسدي؟ ومع ذلك. . .
(ففي القلب تعيشُ الأرواح الحبيبة الخالدة التي لا تفنى وفي القلب. . . تحْفَر القُبُور العزيزة التي لا تُنسى لم أفقدكِ - أيها الحبيب - ولكني فقدتُ نفسي)