لستُ أدري! فأنا أذكر الرافعي. أعرفهُ أدبياً شاعراً فيلسوفاً. . . رجلاً قد انصرف بهمّه إلى الأدب والفكر يجيدُ فيما ما يجيد، ولكني حين أذكره لا أجده في نفسي إلا الصديق وحده. لم أعاشره طويلاً حتى أقول إني أعِي للناس خبره وأعرف عنه ومن أمره مالا يعرفه غيري، كلا لست أدعي ما ليس عندي ولكني كنت أبداً معه بحبي له وصداقتي، وكان هو أبداً يحوطني بروحه في أنفاس من حنانه وحبه. كنا روحين تناظرتا من بعيد وتناسمتا من قريب فعرفته وعرفني. كان بيننا سرٌّ جامعٌ لا أدري كيف أصفه، ولكن كان من يعرفني ويعرفه يجد آثاره ويرى من بعض بيناته ما لا أُحبُّ أن أحدِّثَ به. ومع ذلك فأنا أقصر في حقه ما لم يقِّصر أحد ممن توجبُ عليه الصداقة بعض واجباتها، ولم يكن ذلك، لأني لا أريد، بل لأني لا أستطيع ولا أطيقُ. فما زالت كلما ذكرتُ الرافعي - وقد مضت سنوات - أجد لذعةَ حُزن في قلبي تُرسل آلامها في كلّ سابحة من دَمِي
ولكن الله لم يُخلِ حقَّ الرافعي من رجُلٍ يقوم عليه ويحسن النظر فيه، فهيأ له الأخ (محمد سعيد العريان) يردُّ - بوفائه لذكرى الرافعي - كل ما وجب على أصدقاء الرافعي وأبنائه وتلامذته والمتبعيه. فقد بادر (سعيد) بعد وفاة الرافعي، فأنشأ يحث الناس أخباره ما دق منها وما جلَّ، ويضع بين أيدي الأدباء أكثر العوامل التي يتكون منها تاريخ الرافعي، والتي كانت تعمل في إنشاء أدبه وتوجيه بيانه. وفتح (الزيات) باب القول في الرافعي له وعليه حتى اجتمعت من ذلك طائفةٌ من القول صالحةٌ لدراسة أدب الرافعي دراسة جيّدة لمن ينصبُ نفسه لها. ولكن الأخ (سعيد) لم يرض أن يقنع بما كتب هو عن الرافعي وجمعه في كتابه الذي طبعه بعد وسماه (حياة الرافعي)، فدأب على إظهار ما لم يظهر من آثار الرافعي قديمها وحديثها، وقد كان آخر جهد بذله في ذلك سعيه لإنقاذ مؤلفات الرافعي كلها من الضياع. فانتدب لجمعها وتصحيحها ومراجعتا وطبعها بعد ذلك سلسلة واحدة تقوم بنشرها (المكتبة التجارية) وقد كاد يفرغ من طبع أكثرها، وأنا أعلم أن بين يديه الآن كتاباً من كتب الرافعي التي لم يتمها وكان أصولاً مبعثرة رديئة الخط كثيرة الإضطراب، وهي أصول الجزء الثالث من كتابه الجليل (تاريخ آداب العرب) واستخراج هذا الجزء وحده دون سائر كتب الرافعي يعد عملاً عظيماً ووفاء نبيلاً لرجل هو كسائر الأدباء: حياته حياة أدبه، فإذا مات لم يجد في هذا الشرق الغافل من ينفخ الحياة في آثاره الأدبية مرة أخرى