وخفت الصوت حتى تلاشى، وغربت الشمس، واحتجبت الفتاة عن عيني وراء الجبل، وكنت غريقاً في نهر من الدموع. ولبثت واقفاً تحت الشجرة مدة لا أعرف قدرها، والجبال كأنها نائمة، وقد تلألأت النجوم في السماء وبرز الهلال من شرقي البحر
- ٣ -
ألا تعرف أنها ابنة السيد مين الشريف، أيها الضيف الكريم؟
جلست مع مضيفتي الكريمة خارج الردهة نتجاذب الأحاديث وقصصت عليها ما رأيته في النهار فأخبرتني باسم تلك الراعية الصغيرة
- إن كانت شريفة من بيت شريف فلماذا ترعى الغنم بنفسها هنالك؟
يظهر أن سؤالي هذا حرك في قلب السيدة الكريمة شيئاً كامناً فصمتت برهة وهي تحدق في القمر في وسط السماء ونظرت إليها فإذا عيناها مغروقتان بالدمع، فندمت على ذلك السؤال الذي ضاقت به مضيفتي، وذهب بي الفكر مذاهبه. ثم تحولت إليَّ مضيفتي الكريمة وقد جفت دموعها وقالت:
- كان في نفسي ألا أذكر شيئاً من ذلك الماضي الأليم المحزن، لكنني لا أطيق أن أكتم عنك. غير أن الحديث طويل متشعب فلا أدري من أين ابتدئه؟ وأردفت:
- لم تولد هذه الفتاة الشريفة هنا، في هذه القرية، لقد كانت تسكن في الشارع الرئيس في العاصمة منذ عشر سنوات، وكأن أبوها وزيراً في الحكومة، ثم ترك الوزارة وغادر العاصمة هو وأسرته ليقيموا هنا؛ وإنما كان ذلك حين عرف أن بعض الخونة في الحكومة اتفقوا مع دولة أجنبية ذات مطامع، ولم يسمع الملك شكواه ولم يجبه إلى ما طلب من إعدام هؤلاء الخونة ليصون استقلال البلاد وسيادتها ويوطد سلامتها وحريتها
وكانت زوجته الأولى قد ماتت منذ ست عشرة سنة، ولم يرزق من زوجته الثانية ولداً ولا بنتاً، وكانت الفتاة في الخامسة من عمرها حين ماتت أمها، وكان أبوها يحبها حباً جمَّاً، فعهد إليَّ أن أقوم بخدمتها، وذلك عمل نتوارثه في أسرتنا من زمان في خدمة تلك الأسرة،