أخبارها، ويحفظ آدابها، ثم يدعى إلى قطع الصحراء وزيارة الحرم، هل يقول لا؟ هل يرفض الوقوف أمام الحجرة الشريفة، والقيام في الروضة، والصلاة حيال الكعبة، والشرب من زمزم، والسعي بين الصفا والمروة، وزيارة هاتيك البقاع المباركة التي ولد فيها الإسلام ودرج، وعاش فيها سيد العالم صلى الله عليه وسلم، ويأبى أن يخالط العرب في أرضهم، ويعرفهم في ديارهم، ويرى عياناً ما كان يقرأ خبره في الكتب، ويعرف أخباره على السماع؟
ولقد كنت أعلم أن هذه الرحلة جراءة على الموت واقتحام للخطر، وهجوم على الصحراء الهائلة التي طالما ابتلعت من أمم وأبادت من جيوش، ولكن ذلك كله يرغبني في الرحلة ويحببها إلي، لما ركب في طبعي من حب المغامرة والإقدام، ولأنها درس من دروس الحياة لا أجده كل يوم، هذا الدرس الذي من فصوله الصبر والجرأة والحزم والعزم والوحدة والنظام، يحتاج إليه كل شاب ينشاً في بلاد ليس فيها نظام عسكري كالبلاد الشامية؛ وأن الشبان الذين ولدوا في الحرب العامة أو قبلها بقليل قد فقدوا لطول ما نشأوا على النعم وتقلبوا في الترف طرفاً من الرجولة، وغدوا لما وجدوا من السلامة وفقدوا من المصاعب يميلون إلى التطري والتأنث، ويخشون الخروج من المدن ويهابون الحياة في الريف؛ حتى أن إخواننا من المعلمين إذا أمر أحدهم بالانتقال إلى قرية من القرى فكأنما أمر بالانتقال إلى جهنم. وما ذلك لسوء عيش القرى فليس في القرى إلا صحة الأجسام وصفاء النفوس وجلاء النظر وراحة الفكر، بل لأنه لا يجد في القرية (قهوة) ندياً فاسد الهواء مسدود الأبواب، يجتمع فيه مائتان أو ثلاثمائة على نفخ الدخان، وقرع النرد، وحديث كأنفه ما يكون من الحديث، ونكات كأثقل ما يكون من النكات - ولو أن الشباب ألفوا المغامرة وركوب الأهوال، لما كان من ذلك شيء ومرت أيام ثم لقيني الأستاذ الرواف كرة أخرى فقال لي: هلم فقد تقرر موعد السفر.
فأسقط في يدي ووقعت بين مشكلتين: مشكلة الوعد، ومشكلة الوظيفة. فلا أنا أستطيع أن أضحي بوظيفتي ومنها معاشي ومعاش أسرتي، ولا أنا أستطيع أن أخلف وعدي. ولو أني وعدت غير الشيخ ياسين لهان الأمر، ولكن الرجل نجدي سلفي لا يعرف من كلمة نعم إلا أنها وعد مبرم لا يحله إلا الموت؛ فاخترت الوفاء ولو خسرت الوظيفة وقلت له: أنا