للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

حاضر!

ثم يسر الله فسمحت لي الوزارة بالسفر، وذهبت أعد الجواز. وجعلنا كلما أزمعنا السفر، وودعنا الأهل والأصحاب، عرضت لنا الموانع، فأخرتنا حتى ضجرنا واستحيينا من الناس لكثرة ما نعزم ثم نقعد، وكان أكثرنا قد أقلع عن حلق لحيته ليوفرها، ويجمع منها لحية كبيرة، لما ظنوه أن الرجل هناك بلحيته، فكلما كان أطول لحية كان أعلى مقاماً. . . فكانوا يأسفون عليها ويضنون بها على الخلق، ويستحيون أن يواجهوا الناس بها، لأن هذا الزمان جعل المعروف من السنة منكراً يستحيا منه، والمنكر من البدعة معروفاً يفتخر به. ولبثنا على ذلك أياماً، ثم عزمنا العزمة الأخيرة، فبيتنا ثقلنا في المرأب (الكاراج) حتى نغدو مسافرين. فلما حملناه ورآه أصحابنا وجيراننا جاءوا يودعوننا الوداع السابع ونحن لا ندري أهو الوداع حقاً، أم سنقيم بعده أياماً وليالي أم لا نسافر أبداً.

كنا في المرأب مع الفجر، وجعلنا ننتظر حتى تطلع الشمس، وكان الضحى، وأذن الظهر، وكان العصر، فأيسنا، وهممنا بالانصراف ولكن السيارات حضرت، وتحقق الرحيل، وكانت أربعاً من طراز (البويك) وواحدة من (الناش). وقد رفعوا على السيارة الأولى علماً سعودياً، وعلقوا في صدرها لوحة كتبوا فيها (الوفد السوري لاكتشاف طريق الحج البري). وسرنا وسار وراءنا المودعون في قطار من السيارات الكبيرة ما له آخر يعرف، حتى لقد ظننت أنهم لم يدعوا في البلد سيارة إلا استاقوها، واخترق الموكب مهللاً مكبراً تهتز له الأرض. . .

ولم أكن قد أيقنت بالسفر إلا في تلك اللحظة. فلما تصورتني كيف أفارق أهلي وموطني، وأطوح بنفسي في هذه الصحراء المخيفة، استعبرت. وكنت أطل على بردى، وهو يجري زاخراً فأنامله، فأجده أحلى في عيني مما كان، وأحب إلى نفسي، وعز علي أن أفارقه، واستفاقت في ذهني مئات من الذكريات، وكرت على حياتي كلها كأنها (فلم) أراه، فأبصرت في كل بقعة من دمشق، وكل طريق من طرقها قسما من حياتي. . . وهل حياة المرء إلا في قلوب أصدقائه، ووجوه أصحابه، وجوانب داره، ومشاهد بلده؛ فإذا فارق أهله، وغادر بلده، إلى بلد لا يعرفه، وأهل لا يألفهم، فكأنما مات نصف ميتة. ومن أجل ذلك كانت الهجرة جهاداً في سبيل الله، ذلك لأنها لون من ألوان الموت، ولكن صاحبها ميت

<<  <  ج:
ص:  >  >>