فهو ولا شك خطيب مبين، ولكن لا شك كذلك أنه ليس من ملوك الكلام في عصرنا الحاضر؛ وأنه لا يعد من طبقة الخطباء الذين يخاطبون كل جمهور ويتكلمون في كل قضية ويروضون عصى الأسماع، ولا تخاله يحسن القول بضع لحظات في موضوع غير الموضوع الذي يقلبه منذ عشرين سنة، أو بين أناس غير الذين يوافقونه في الجملة، ولا يخالفونه - إن خالفوه - إلا في التفصيل.
فليس هو في إفاضة بريان، ولا في بادرة لويد جورج، ولا في مهابة سعد زغلول.
ولكنه أقرب إلى الممثل الذي كرر دوره حتى حفظه ووعاه ووقع فريسة له فلا يقدر على تبديله
تخيله مثلاً غير غاضب، أو غير متكلم في مظالم ألمانيا المزعومة، أو غير مطمئن إلى آذان سامعيه
وتخيله واقفاً في لندن أو في موسكو أو في القاهرة يفاجئ السامعين على غير معرفة باسمه، ولا عهد بموضوع كلامه
إنه إذن ضائع لا محالة
وعيبه الأكبر أنه لا يقنع ولا يقيم الدليل، وأنه ما خرج قط على عادة واحدة تتردد في جميع مواقفه وموضوعاته، وهي إثارة الحفائظ وإضرام الكراهية ومواجهة السامعين من جانب الشعور المتفق عليه بينه وبينهم. . . وفيم اجتهاده في إقناع من هو قانع؟ وإيمان من هو مؤمن بغير برهان؟
ومرجع هذه العادة عنده إلى علل كثيرة: بعضها أصيل عالق بطبعه؛ وبعضها حديث طارئ عليه من حوادث حياته وعصره فالحديث الطارئ عليه هو هذا الذي ذكرناه؛ وهو أنه تعود في أيامه الأخيرة على الأقل أن يخاطب أناساً لا يحاسبونه ولا يجسرون على حسابه، ولعلهم لا يريدون أن يحاسبوه لاتفاق الشعور بينه وبينهم.
والأصل العالق بطبعه أنه فقير في العاطفة الشخصية، غني في العاطفة الشعبية أي العاطفة التي تربط بين الفرد والجماهير والعاطفة الشخصية هي التي تربي المساجلة والمحادثة، ومواجهة العقل للعقل، والنفس للنفس، والإصغاء في موضع الإصغاء، والإثبات بالحجة في موضع الإثبات.