فالرجل المفطور على عاطفة يساجل بها العواطف، وفكرة يقابل بها الأفكار، يقول ويسمع، ويستميل الفرد بالوسائل التي يستمال بها الأفراد، مرة بالإيحاء، ومرة بالدليل، ومرة بالشرح المفهوم؛ وفي كل مرة بتبادل الثقة والاعتراف بحق المناقشة والاعتراض.
أما الرجل الذي نضبت نفسه من جانب العاطفة الفردية، والذي ليس عنده ما يتبادل به مودة بمودة أو فهماً بفهم أو خاطراً بخاطر، والذي انقطعت جميع الوشائج بينه وبين إخوانه من أبناء آدم إلا الوشيجة التي تكون بين الواحد والألوف أو بين الداعية ولجمهور - فذلك رجل محدود القدرة على التحدث والتفاهم وعلى الإصغاء والإقناع، محتوم عليه أن يجد جمهوراً يستمع له ويكتفي منه بالاستماع، أو أن يتخيل نفسه قائماً بين جمهور وإن كان في مجلسه أفراد قليلون.
لهذا اشتهر هتلر بالتدفق في أحاديث السياسة ساعة بعد ساعة دون أن يقف أو يتمهل أو يسأم التكرار. فأن لم يتدفق في أحاديث السياسة، فهو بين حكاية نادرة أو إعادة ملحة مطروقة أو سرد تاريخ قديم؛ فإن لم يكن هذا ولا ذاك، فليس في مجلسه إلا السكوت والوجوم.
فهتلر الفرد (معدوم)
أما هتلر الموجود، فهو البوق الذي ينفخ في الجماهير أو يردد صدى الجماهير.
وانظر إلى صوره وهو في مواقف التفاهم والتحادث تر أمامك صوراً فاترة باهتة تنطق بالتكلف ونقص الحياة وتبعث في نفس ناظرها الريبة والنفور.
أما الصور التي يحيى فيها وتلبسه الحركة والشدة، فهي الصور التي ينقطع فيها التفاهم ويثور فيها الغضب وتتأجج فيها البغضاء.
وماذا ترى في هذه الصور؟
إن الخطباء الحماسيين جميعاً ليغضبون، وأنهم جميعاً ليحركون الغضب في الجماهير.
إلا أن الفرق بين غضب وغضب لفرق عظيم، وإن الاختلاف بين حماسة وحماسة ليفوق الاختلاف بين القوة والمرض، وبين الجلال والهوان
رأينا سعد زغلول وهو غاضب في خطبه، فرأينا غضباً كأنه السيف يصول به الفارس على قرنه، ويعرف كيف يصول