ورأينا هتلر وهو غاضب في خطبه، فماذا رأينا؟ رأينا غضباً كأنه الدمل المفتوح بنفس عن ضغينة كامنة كأنها القيح المحبوس، فهو فرصة للألم والتذاذ الألم في وقت واحد، وهو علاج للتنفيس عن داء، وليس بالسيف في أيدي الأقوياء
هو نوبة مصروع وليس بوثبة صارع.
وهو منظر تزور منه العيون، وليس بمنظر تود العيون أن تمتلئ منه
وهو رقصة الهمجي في حومة الدم أمام أوثان النقمة والتشفي، وليس برقصة الفارس في حومة البرجاس
وقد جمعنا في هذه الصفحات صوراً عدة لهتلر وهو يخطب، أو وهو يغضب، لأنه في الحقيقة قلما يخطب إلا ليغضب. فأية صورة من تلك الصور يا ترى يستطيع القارئ أن يكتب تحتها مثلاً:(هذه صورة هتلر يزأر أو يزمجر؟)
إن هذا الكلام ليكتتب تحت صور كثيرة لمصطفى كمال أو لسعد زغلول، ولكن هتلر - على عنايته بصوره واتخاذه رساماً خاصاً يتبعه في جميع المحافل ويوزع في أقطار العالم ألوف الصور بل عشرات الألوف منها - لا توجد له صورة واحدة تخيل إلى الناظر هيئة الأسد المزمجر أو الأسد الغاضب، وكلها بلا استثناء مما يصح أن يكتب القارئ تحته:(هتلر يعوي) أو هتلر (يلطم). . . ولا جناح عليه
ومن المعقول أن رجلاً كهذا يحب حلقات الخطابة التي يتزين فيها لشياطين غروره وحقده كما تتزين المرأة المجنونة لشياطين الزار، ويستريح فيها الهياج والتهييج كما تستريح تلك المرأة لصرعة الرقص وجلبة الطبل ورؤية الذبائح وهي تتخبط في الدماء.
ومن المعقول جداً أن يكره مواقف المفاوضة والتفاهم لأنها تلطمه على عجزه وتكشف له عن خواء طبعه، وتخرجه منها وهو في رأي نفسه أقل من حوله. . . إلا أن يلجأ إلى التهديد بالحرب كما يفعل في معظم أحاديثه، فهو إذن في موقف الإملاء وليس في موقف المفاوضة والإقناع.
وقد سجلت كلماته في المفاوضات التي دارت بينه وبين سفراء الدول ورؤساء الحكومات، فإذا هي عبرة العبر وأضحوكة الأضاحيك لا يكون فيها إلا ممثلاً يراوغ، أو مهدداً يتوعد، أو منكراً لما يقال على طريقة الأطفال والنساء الجاهلات: إني أنكر هذا لأني أنكر هذا،