المتجمد بحرَّ صدرها، فنفذ الشوك إلى لحمها، وسال الدم القاني من صدرها بغزارة، ونزف منها بكثرة؛ فنبت للعوسج أوراق طرية خضر، وجللت الأزاهير الناضرة عروقه وفروعه في تلك الليلة الشديدة البرودة من فصل الشتاء. . .
ولكم في صدور الأمهات الحزانى من نار تستعرُّ ولهيب يتأجج ثم أرشدها العوسج إلى الطريق التي يجب أن تسلكها. . .
ووصلت بعد حين إلى شاطئ بحيرة لا سفينة فيها ولا قارب، ولم تكن البحيرة من التجمد بحيث يسهل المرور عليها دون أن يغوص فيها المرء أو يتكسر جليدها، كما أنها كانت شديدة العمق؛ فلم يكن من الممكن أن تقطعها الأم خوضاً. وكان لا بد لها من أن تصل إلى الضفة المقابلة أن كانت راغبة في الحصول على ابنها.
وثار الحب في صدرها والحنين؛ فارتمت على الأرض لترى إذا كان مقدورها أن تبتلع ماء البحيرة كله!. . . فكان هذا ضرباً من التفكير العقيم؛ ولكنها فكرت في أن الله رحمة منه وشفقة لا بد من أن يحدث لها معجزة تمكَّنها من اجتياز البحيرة. فقالت لها البحيرة حينذاك:
- ولكن لا. . . إن هذا لن يكون أبداً. . . كوني أكثر عقلاً وأبعد نظراً، وفكري فيما إذا كان في الإمكان أن نتراضى ونتفق. أصغي إلى ما سأقول:
أحب أن يكون في أعماقي جواهر ولآلئ، وعيناك هاتان لهما بريق وضياء وسحر وبهاء أكثر من الدر الكريم نفسه الذي لم أملكه قط في ماضيات أيامي، فإن شئت فاذرفي الدمع سخيناً وأكثري من البكاء كثيراً، فإذا ما فعلت فإن عينيك ستخرجان من محجريهما، وحينذاك أقودك إلى ملجأ النبات الكبير على الشاطئ الآخر، وملجأ النبات هذا هو مقر الموت أيضاً. . . الموت يحصد الأزهار والأشجار، وكل زهرة أو شجرة فيه رمز لحياة إنسان
فأجابتها الأم بحرقة والتياع:
- أفلا أجود بهما في سبيل استرداد ولدي؟
من كان يحسب أنه مازال في مآقيها دموع؟ ولكنها ذرفت الدموع السخين بحرقة والتياع لم تعرفها قبلاً وخرجت عيناها من محجريهما، وذهبتا إلى البحيرة حيث استقرتا في قاعها؛