الرحمة! الشفقة!. . . لا تقتلع غصن ولدي بعد أن وجدته وأخذت تتوسل وتتضرع، وتنتحب وتتحسر، غير أن الموت لم يصغ إلى بكائها ونحيبها ولمُ يعر صنيعها اهتمامه أو انتباهه.
وقبضت الأم حينذاك على زهرتين ناضرتين والتفتت إلى الموت وقالت له مهددة:
- أنظر. . . إنني سأقطفهما مع جميع الأزهار التي تحيط بهما وسأتلفها كلها. إنك تدفع بي إلى اليأس المرير.
فصاح بها الموت:
- لا تجذبيهما!. . . لا تتلفيهما!. . . تزعمين أنك تعيسة شقية وفي نفسك رغبة في سحق قلب والدة أخرى؟. . .
- قلب والدة أخرى؟
قالت المسكينة هذا وخلَّت الأزهار من يدها حالاً
فقال لها الموت حينذاك:
- خذي عينيك، إنهما تبرقان وتلمعان بصفاء ووداعة أكثر من الوقت الذي أخرجتهما فيه من البحيرة. لم أكن أعرف أنهما تخصانك. خذيهما وانظري بهما إلى أعماق هذه البئر، فستريك ما كدت أن تهدميه فيما لو اقتلعت هذه الأزاهير، وسترين في انعكاسات الماء الخط المقسوم لكل من هاتين الزهرتين يمر أمامك كالسراب، وستريك أيضاً الحظ المقسوم لابنك فيما لو كتبت له الحياة.
وانحنت الأم على البئر فرأت صوراً من السعادة الضاحكة وألواحاً من البشر والسرور. ثم مرت بعد ذاك مشاهد مخيفة من البؤس والحزن والكآبة. وقال الموت معلقاً على ذلك:
- هذا وذاك كله من صنع الله ومشيئته
فأجابت الأم بحزن وغم:
- ولكني لم أتمكن من تميزها ما كان مقدراً لولدي. . .
فقال لها الموت:
- لن أخبرك بشيء من ذلك؛ غير أني سأعيد مشهده أمام ناظريك ثانية بين جميع الصور والألواح التي مرت أمامك الآن؛ وقد رأيت دون ريب ما كان ابنك ينتظر في الدنيا.