كانت هدايا الدكتور تتري إلى صديقه الشيخ طاهر الجزائري بدمشق يحملها المكار كل مدة من عاصمة الفينيقيين إلى عاصمة الأمويين. أتدرون ما كانت تلك الهدايا النفيسة؟ كانت قصاصات من جرائد مصرية وسورية قديمة وحديثة، أقدمها لا يزيد على بضعة أشهر، وعمر أحدثها شهر واحد فقط. وكان يقطع من كل جريدة ما راقه، ويجمع الباقي ويضعه في كيس نظيف أبيض، ويخيطه جيداً حتى لا تمتد الأيدي إلى السرقة منه. وقد أتحفني المُهدي إليه مرة بكمية منها. فلما رأيتها قديمة استعفيت من أخذ حصتي في الدفعة الثانية، وأحببت أن أخص بها من يحبون الجرائد ولو كانت قديمة بالية.
كان الدكتور حسين عودة مولعاً بالحشائش، ويطب مرضاه بها على الدوام، وقد ملأ المجلات الطبية في عصره بفوائدها، فأول ما وقعت عيني عليه في داره مجموعات عظيمة من هذه الحشائش مرتبة مصففة مجففة، جعلت على مناضد ومقاعد، وكتبت أسماؤها عليها مثل ما ترون من نوعها في متاحف النباتات ومعارضها، وألقيت نظري على الحائط فإذا به عال جداً لا يقل علوه عن أثني عشر متراً، فسألته ولم هذا الحائط شاهق إلى هذه الدرجة؟ فقال: لأن النظر إلى البحر يؤذيني، ويحمل الكرب إلى قلبي، ولذلك أقمت هذا السور ليحول دون نظري وما يكره.
كان الدكتور يطب الأغنياء في بيوتهم بقرش واحد، فإذا زاروه في عيادته أخذ منهم ربع قرش (متاليك)، أما الفقير فإن قصده أو ذهب هو إليه بنفسه، لا يقبض منه شيئاً، ويعطيه ثمن الدواء، والدواء بالطبع بعض تلك الحشائش. ولذلك يُعَّد الدكتور عودة من أبر الأطباء بيمينه التي أقسمها يوم خرج من المدرسة الطبية إلى مدرسة الحياة. وسرت مع الدكتور في أسواق صيدا وضاحيتها فرأيت أهل البلد كبيرهم وصغيرهم، رجالهم ونساءهم، أطفالهم وبناتهم، يعرفون الدكتور ويعظمونه، ويسألونه في الطريق علاج أسقامهم، ويدعون له بطول العمر.
ودّعت الدكتور وقد شفيت النفس من المتعة به ثلاثة أيام، وكنت نازلاً في الطبقة الثالثة من فندق المطران، فقيل لي بعد الغروب بثلاث أو أربع ساعات: إن الدكتور آت لزيارتك، فعجبت وخففت لأتلقاه على السلم وقلت له: لماذا تصدْع نفسك يا سيدي، وقد ودَّع كلٌ منا