وعزى بعضهم بعضاً؛ ثم انصرفوا يحملون رفات الشاعر الشهيد إلى مثواه؛ وتداعى الناس إلى مأتمه محزونين وإن حديثه ليرطب كل لسان؟
وكتبت اسم أحمد في سجلَّ الراحلين من أدباء الأمة. . . وصاح الصائح في الأمة يدعوها لتخليد ذكرى الأديب الراحل، وطفحت أنهار الصحف الأدبية بالحديث عنه وتمجيد ذكراه!
ومضى عام قبل أن يحددَّ يوم يقوم فيه الخطباء والشعراء لتأبينه، وكان يوماً مشهوراً. . .
كان المدرج الكبير غاصاً بأهل الأدب، وسروات المدينة، وذي الجاه والرياسة؛ وقد نُصَّتْ في صدره منصةُ عالية عليها كراسي مذهبة، يشرف عليها صورة مكبرة للفقيد العزيز مجللة بالسواد، تطل منها عينان ساخرتان على تلك الجموع الحاشدة؛ وكان في ركن من القاعة فتاة ذات جمال قد انتقبت بنقاب أسود شفيف مبتلٍْ بالدمع، وإلى جانبها فتيات. تلك هي سعدية؛ وجلس في الصف الأخير بضعة فتيان شُعْث غُبْر قد تأبطوا كتباً وصحفاً ومجلاّت قديمة، تدل ثيابهم وهيئتهم على الفقر والقناعة و. . . والعبقرية، وتنطق سِماتُهم وشارات الحداد في وجوههم بأنهم أكثر أهل الحفل إخلاصاً لذكرى صاحبهم الذي مات. . .! أولئك أسرة الفقيد من أهل الأدب!
وكان على الباب بوابون من ذوي اليسار والنعمة، يستقبلون القادمين ويدعون كلا منهم إلى مجلسه يوائمه. وتدلَّت الأنوار ثريات تكشف الشمس وتبهر النظر. وكانت حفلة، لو أحصى ما أنفق في أعدادها لكان حياةً من موت وغنى من مَتْرَبة!
وغصَّ البهو والشرفات بالوافدين على الحفل من أهل الوفاء والأدب؛ وحل الموعد، وصَغَتْ القلوب وأرهفتْ الآداب!
ووقف الخطيبُ الأول يذكر تاريخ الفقيد؛ وكان يلبس حلةً سوداء غالية، وقد أحكم المنظار على عينيه وتدلت سلسلته الذهبية على كتفه، وبَرَق الماس في إصبعه؛ وبدأ يخطب:
(أيها السادة!)
وكان السادة منصتين في لهفة وتأثر. . .
وتتابع الخطباء والشعراء يذكرون ما يذكرون من فضل الفقيد وعبقريته وعلمه وخسارة