مؤدبة، ولكنها لم تبد أدنى اهتمام، فأوسع الخطى حتى حاذاها، وكاد أن يلمس كتفها، فأوسعت الخطى بدورها لتسبقه فاستبقا. وأدركت بلا ريب أن شخصاً يطاردها فالتفتت نحوه بغضب، وكان يتربص للفرصة السعيدة فصوب إليها نظرته المشهورة، فردت عليها بنظرة عنيفة كأنها تقول له:(مكانك يا هذا). وتنحت عن سبيلها منعطفة إلى اليسار ثم انتهت المطاردة بانتهائها إلى العمارة رقم ١٠ بشارع البستان وتردد أمام العمارة مرتين، ولم يجد بداً من العودة فقفل راجعاً. وكان مهموماً مغتماً كمن يقفل من معركة دامية لا مطاردة غرامية. وما كان يشعر بأي إحساس من أحاسيس الحب أو الفتنة، ولكن كانت تضطرم في قلبه عواطف الكفاح والقتال وبات ليلته وقد صدقت عزيمته على الجهاد إلى النهاية
وتوجه في أصيل غده إلى المكان نفسه - وانتظر حتى رآها تسير نحوه في مشيتها التي تجمع بين الرشاقة والشدة فتبعها على الأثر، وأدرك لأول وهلة أنها لا تجهل تعقبه لها وأنها برمة ضيقة به، ولكنه سار في طريقه غير حافل بتذمرها، لأنه كان عنيداً مثابراً ملحاحاً؛ فكان جزاؤه نظرة أشد من نظرة الأمس. وفي اليوم الذي بعده خرجت عن صمتها بأن قالت له بلهجة خشنة صارمة:(من فضلك بلاش قلة أدب). وفي اليوم الرابع قالت له بنفس اللهجة (شيء بارد). وقالت له في اليوم الخامس وهي تحدجه بنظرة وعيد (إذا لم ترتدع عن هذا السلوك الشائن ناديت الشرطي)، ولما كانا في اليوم السادس لاذت بالصمت يأساً وتجاهلته، ولكنها لم تناد الشرطي، فتنهد ارتياحاً وعد سكوتها فوزاً مبيناً. وأخذته نشوة طرب فسأل لسانه بكلام - وإن يكن مبتذلاً غاية الابتذال، ويحفظه جميع من هم على شاكلته عن ظهر قلب - إلا أنه كان يحسبه من الرقى الغرامية كنظرة عينيه سواء بسواء. قال لها:(يا معجباً بنفسه يا شديد الجفاء بغير سبب. يا تياها بجماله، هل ذنبي أنا أنك جميل ولا نظير لك في الكائنات. وهل جرمي أن لي قلباً يشعر ويهيم بالجمال. أيصح أن تنذريني بالأمس بالشرطي. وهل ينادي الشرطي للعاشقين. . . الشرفاء. . . أمثالي، ومع ذلك نادي الشرطي، بل نادي الموت نفسه فلن أبرح حتى أسمع من الفم الصغير هذا - الذي يحاول خنق ابتسامة بريئة بغير ذنب - ما يدنيني إلى أملي. . .)
ولم يعد يقنع بالمطاردة القصيرة التي تبدأ في شارع السلحدار وتنتهي في شارع البستان،