ووجد في موقع صالون الكمال من العمارة رقم ١٠ ما يشفى شوقه وطمعه. فانضم إلى زبائنه وتودد إلى صاحبه وجعل منه ناديه المفضل على كل مكان
وكان يندفع بادئ الأمر - كما قلنا - بقوة غضب ورغبة في الغلبة. وكان يعتزم أن يقف ويتراجع حين تلين وتراخى. وكان يعود من كل مطاردة - في أول عهده بها - ولا فكر له إلا عنادها وصلفها وغضبه وخنقه. ثم أخذت صور أخرى منها تتسلل بمهارة فائقة إلى مخيلته مثل قدها الرشيق وعنقها الطويل وقسماتها الصغير المتناسبة. ومضت هذه الصور تزحف على وجدانه من سراديب حواسه وتندس إلى زوايا قلبه وهو لاه عنها بحنقه وكفاحه. فغدا يتعرض لها مسوقاً بأشواق وحنين. وملبياً نداء يصعد من أغوار نفسه حتى أقر أخيراً في إشفاق وقلق وذعر أنه يحبها. وأن الداء يبرح به مرة أخرى. وصادف به مرة أخرى. وصادف اكتشافه لحقيقة عواطفه تراخي الفتاة واستلامها فلم يقف ولم يتراجع كما كان اعتزم. بل شد على يديها في حماس دافق واندفعا معاً في سبيل الحب، وفتحت له نفسها وبسطت أمام ناظريته صفحة حياتها البسيطة فعلم فوق ما كان يعلم عنها أنها تعيش مع أمها وخالتها، وأنهما في غير حاجة مادية إليها وقد أكدت له ذلك تأكيداً لم يخف عليه مغزاه. أما هو فأخفى عنها جل نفسه فلم يدر لها بخلد أنه زوج وأنه إلى درجة ما عريس. وكان هذا ما يكدر صفوه وينتزعه من سكرة أحلامه، فمثل الصلة التي بينهما لا يمكن أن تدوم قانعة باللقاء صباح الجمعة بحديقة الوطن بهليوبوليس، ومساء الأحد بسينما ركس. وفضلاً عن ذلك لا يمكنه أن يتغاضى طويلاً عن تلميحها المستمر إلى موضوع الزواج. فلم ير بداً - حرصاً منه على الاحتفاظ بها - من مجاراتها في أحاديثها فما لبث أن جرى ذكر الزواج على لسانيهما وناقشاه على اعتبار أنه النهاية التي تهفو إليها نفساهما
وخطت درية خطوة أخرى فدعته إلى زيارة بيتها لتقدمه إلى أمها وخالتها. وهنالك أسقط في يده لأنه ما كان يستطيع أن يلبي الدعوة ولا كان يدري كيف يرفضها، والاعتذار لا يغني عن حالته طويلاً. فما عسى أن يفعل؟ أيلوذ بالفرار ويختفي من أفقها إلى الأبد؟ قد يبدو هذا الحل ما فيه من نذالة أوفق الحلول، ولكنه لم يستطيع على شدة حرجه أن يأخذ به، لأنه كان انفعالي المزاج لا يزع نفسه عن هوى. وكان في الحق قد غدا مستهاماً بها كلفاً. فألف صورتها وحديثها وإيماءاتها ألفه مازجت روحه وسعادته. فهل يعترف لها