من يلجأ إليها، ولو كان من دعاة الهدم والتخريب
كانت باريس تعرف أن نشر الُمعاد من الأفكار الموروثة لا يحتاج إلى حماية، ففي مقدور كل مخلوق أن يذيع الآراء التقليدية حيث شاء، وكذلك رأت باريس أن تكون حامية الفكر المحرَّر من جميع القيود، وفي رحابها ترعرعت المبادئ الجوامح التي صارت عدة أعدائها من الروس والألمان والطليان
فكيف صِرتِ اليوم يا باريس؟ وكيف تصيرين بعد اليوم؟
أنا أعرف أن جراحك لن تندمل في يوم أو يومين، واللحظة الواحد من آلام الأحرار تُقدَّر بأعوام طوال، فماذا تَنوين وقد قهرك بَغيُ الأعداء على اعتناق مبدأ الحقد الأسود؟
في رحابك اليوم شيوخ وأطفال لا يفتحون عيونهم إلا على ظُلمات من فوقها ظُلمات، فهل تختفي البشاشة الروحية والوجدانية من أدبك الرفيع؟ وهل يَحُلّ النفاق محل الصراحة بعد أن دفعت الأثمان الغالية في عقوبة الترحيب بالرأي الصريح؟
وهل تصيرين مثل موسكو وروما وبرلين في خضوع الأفكار والمذاهب للسلطة العسكرية؟
أنا لا أخاف أن تموت باريس، وإنما أخاف على باريس عادية الجمود
إن أبناء باريس حاولوا تخريبها مرات كثيرة بسبب العداوات الحزبية، ولم يُفلحوا، فكيف يُفلح في تخريبها الأعداء؟ وهل خُلِقتْ باريس للموت، وهي أسطع جذوات الخلود؟
أحب أن أعرف ما الذي ستصير إليه باريس بعد اليوم؟
أحب أن أعرف مصير الحرية الفكرية في هذا الوجود الموبوء بأنفاس المُرائين والمخادعين؟
لم أتفجَّعْ على باريس لقرابة أو جِوار، وإنما أتفجع على باريس لما بيننا وبينها من انساب علمية وروحية، فإليها يرجع الفضل في تخريج من عرفنا من كبار الأدباء والزعماء، وتلك وشائج لا ينساها إلا من ابتلاه الله برذيلة الجحود
سيعضٌّ قومٌ بنان الندم على الشماتة بمدينة النور، يوم يعرفون أن لم يبق في الدنيا مكان تذاع فيه آراء الأحرار بلا تهيب ولا إشفاق بعد خمود باريس
لابُدَّ للفكر من مدينة في مثل صراحة باريس وسماحة باريس، فإلى أين يذهب الفكر وقد ضُرب الحرَج على باريس؟