ستذكرون يوماً أن أعظم المعارك قامت أو كُسبِتْ بسبب لفتة ذوقية صَدَرتْ عن شاعر مُجيد أو كاتب بليغ أو خطيب صَدَّاح. وستعرفون يوماً أن ضمائر الأمم لم تخلقها غير أفكار الأدباء الموهوبين.
الأديب ليس جنديَّا يتلقَّى الأوامر، وإنما هو بَطَلٌ يُطاع. فليكُفَّ قومٌ عن التنديد بأهل الأدب، وليذكروا أنهم لم يكونوا إلا حاكين لأقوال أهل الأدب في الوطنية. ولولا أقلامنا لعجز أولئك اللائمون عن صياغة عبارات الملام
أسرار الجزع على باريس
وبهذه المناسبة أذكر أن في أهل مصر من شكت جفونهم قسوة الأرق حين سمعوا بسقوط باريس بين أيدي الألمان
فبأي حق جزع الجازعون على باريس وهي المدينة الوحيدة التي يموت فيها الرجل من الجوع حين يعوزه القوت؟
جزع المصريون على باريس وليس لهم فيها أعمام ولا أخوال، لأنهم سمعوا أنها كانت مثابة للحرية الفكرية والروحية والذوقية. جزعوا على مدينة سمعوا أن أهلها في أمان من أوزار النفاق. جزعوا على المدينة التي سمعوا أن الرجل قد يعيش فيها طول عمره بدون أن يتعرض للهوان ما دام معتصما بالأدب والحياء
وتلك معان لم يسمع عنها في غير باريس
وإلا ففي أي أرض يستطيع الرجل أن يعيش وهو في أمان من أهل اللغو والفضول؟
في أي أرض يستطيع الرجل أن يعيش وهو من أدبه في حصن حصين؟
باريس هي البلد الوحيد الذي لا يجازَى فيه الرجل بغير ما تجترح يداه
الرجل المهذَّب يعيش ويموتُ في باريس بدون أن تتعرَّض سمعته للزُّور والبهتان
فمن أين نشأت هذه المعاني؟
أليست من ثمرات الأدب الرفيع؟
باريس هي البلد الوحيد الذي يتجاور فيه حزب الله وحزب الشيطان بلا بغي ولا عدوان. باريس هي البلد الذي لا يتقدم فيه رجل بغير حق إلا في النادر القليل
في باريس يقوم الملعب بجانب الكنيسة، ثم يلتقي اللاعبون والمصلون وهم يتبادلون تحيات