العرب وتراثها ما يستحلي من أجله كل صاب وعلقم. . . وإنه يحمد الله على أن هداه إليَّ ووفقه إلى إنجاح المسعى بي. . . الخ
كل ذلك يقوله بنبرة متحمسة ولهجة عصبية تعطف عليه الصخر الأصم. ولم يكن من هذا العاجز إلا أن وقع في الشراك قائلاً في نفسه: إن من الفرض على المرء أن يشجع من نصب نفسه لخدمة العلم مهما كلفه التشجيع من الجهد والوقت
وعدته أن أهب له فراغي الوحيد كل أربعاء من الصباح حتى الظهر، ولبثت على ذلك حتى انتهى العام الدراسي: يقرأ على في قاعة المكتبة الظاهرية نسخته التي نسخها بمصر من كتاب (سر الصناعة لابن جني) وبيدي النسخة الخطية التي تملكها دار الكتب الظاهرية من هذا الكتاب، وأنا أصحح وأقابل وأضبط وأعلق وأرجع إلى مصادر كثيرة في القاعة وهو يكتب ما أملي عليه. فما سلخنا العام حتى أتممنا من العمل قسما صالحاً لست أدري مقداره الآن بالضبط، ولكن الخطة شرعت والعمل وضح، والعقبات اجتيزت، والحزون سهلت، وبقي من العمل ما لا خطر له. كل ذلك على ملأ من الناس، وعلى عين من موظفي المكتبة ومناوليها وروادها لأن قانون دار الكتب يحظر إخراج المخطوط منها تحظيراً باتاً
ثم تعاقبت الأيام يلقاني فيهن هذا الشاب. كلما هبط دمشق بمظاهرة حافلة من البشاشة والشوق والتعظيم والاحترام. . . إلا أنه لا يذكر الكتاب بحرف طول هذه المدة، فظننت أنه ناء بالمشروع وعجز عن نفقاته فأهمله لسوء حاله، ولم أجد من المروءة أن أنكأ فيه جرحاً داملاً. . . وكرت الشهور وإذا بي أجد في دار الكتب قبل شهرين رسالة صغيرة بالفرنسية نال بها هذا الشاطر الدكتوراه، بعد أن عرضها - فيما بلغني - بالعربية على الجامعة المصرية فلم تر فيها شيئاً فرفضتها. قلبت الورقة الأولى من الرسالة فإذا خلفها:(سيصدر للمؤلف بالعربية: كتاب سر الصناعة لابن جني) فدار رأسي والله، لا حسرة على الوقت الضائع والجهد المسروق، ولا خشية أن يكون عبث بالعمل فأفسده ثم هيأه للطبع، ولكن فوجئت بما لم أكن أتصور أن الحياة تنطوي عليه من وقاحة وصفاقة، وعرفت أن ذلك التهافت من شبابنا على نيل الشهادات بأرخص الوسائل وأبعدها عن الشرف، قد دخل في طور آخر أدنى وأحط، هو ما قصصت عليك من أمر هذا الشاب