للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

إلى يا أوراقي، إليَّ، إلىَّ، فقد طالَ عهدكِ بالحجاب، واشتقتُ إليك أشد الاشتياق!

ورجعت إلى تلك الأوراق، الأوراق التي سبقت هجرتي إلى بغداد، رجعت إليها في حذر وخوف، لأنها تذكرني بعهود سيطول عليها بكائي إن فكرت في أيامها الطيبات

فماذا رأيت؟

رأيت ألوفاً من أطياف الشباب، الشباب الذي أبليته في الدرس بلا ترفق ولا استبقاء

ورأيت قصائد منسية كنت نظمتها أيام كنت أومن بأن الدنيا أهل لأن يعيش فيها الرجل وهو مُرهَف الحس خفاق الفؤاد

ورأيت رسائل مهجورة أملتْها قلوبٌ خوافق لا أعرف مصيرها اليوم، ولا أدري مكانها بين الحياة أو الموت

ورأيت مواعيد وفيتُ منها بما وفيت، وأخلفتُ منها ما أخلفت، يوم كانت الدنيا تسمح بأن أتخيَّر من المواعيد ما أشاء. ومن أخصب تخيَّر. فيا زمن الخصب أين أنت؟ وكيف ألقاك؟

ورأيت صوراً غالية كادت تُبليها الأنفاس والمدامع، لطول ما عانت من لوعتي وأساي، قبل أن يروضني الدهر على اصطناع الصبر الجميل:

وإن أَكُ عن ليلَى سلوتُ فإنما ... تسليتُ عن يأس ولم أسلُ عن صبر

ورأيت خطابات لا تستحق الحفظ، لأن أصحابها ضيعوا العهد، وأخلفوا الميعاد

وقد مزَّقتُ تلك الخطابات شر ممزَّق، ثم رجعت فجمعت أوصالها بترفق وتلطف، لأني تخيلتها جُثثاً هوامد لأرواح قتلها الغدر والجحود، ولا يباح التمثيل بجثث الأموات

ورأيت رسائل من هند، فعرفت أن بلائي بها قديم العهد، وكنت أحسب هواها أين أَمس!

ورأيت ما دلني على أن فلاناً كان ينزعج حين تخلو حياته من وجهي يوماً أو بعض يوم، وقد صار إلى ما صار إليه، فلا ألقاه إلا بعد استئذان

فيا فلان، كيف حالك، فلست أنت الذي أراه حين أستأذن في الدخول عليك، وإنما هو خيالك، خيال الصديق العزيز الذي كنت أعهد، وما هو خيالك؟ إنما هو الهيكل الذي أحتل روحك اللطيف بغير حق، فأين أنت يا صديقي لأقدم إليك تحية الوجد والشوق؟ أين أنت، فما تخيلتُ فجيعتي فيك إلا طار صوابي؟!

ورأيت عناوين محفوظة لأحباب أوفياء، فأين أولئك الأحباب لأكتب لأحدهم خطاباً أقول

<<  <  ج:
ص:  >  >>