أمانة ووفاء، لنتبين أسلوبه، وندرس حياته وآراءه، وما تأثرت به كتاباته من آراء غيره ومما أحاط به من ظروف وأحداث كان لها الأثر في تفكيره وبيانه
فالشاعر كما ترون خلال هذه السطور القليلة التي قرأتم والتي أرجو أن أوفق للمزيد منها في مقال آخر، لا يحاول أن يبسط سلطانه على عقل القارئ ولا يختار موضوعاً اجتماعياً بعينه ليدلي فيه برأي قوي عنيف يفزع به القارئ أو يجذبه إليه، ولكنه يعمد إلى الحقائق المجردة والمشاهد المألوفة فيدعها تسيطر على عقله هو ثم يصفها لك كما أثرت في نفسه وكما يراها هو، فلا يلبث القارئ أن يؤخذ بالصورة التي رسمها له، ويتأثر بالعوامل التي تأثر بها الشاعر، فيرى بعين الشاعر ويفهم بعقل الشاعر في غير عناء ولا كلفة. وإنك لتدرك بعد هذا أن شاعرنا قوي السلطان على قرائه، ولكنه لا يقسرهم طاعته، شديد التأثير فيهم ولكنه لا يسلط عليهم قوته، وإنما هم القراء الذين يهرعون (لبضاعته) ويخضعون لطاعته والتأثير به. قال فيه أحد المترجمين له:(لم تكن هناك أخيلة قد ألقى عليها الشعراء ضوءاً يمكنه أن يختار منها ويقتبس، ولكنها كان يفحص الأشياء في حدود ضيقة لنفسه وبنفسه حتى يستطيع وصفها وصفاً لا يفترق عن صنعة المثال، فوصفه للطبيعة يشعرك بهبوب الريح ورطوبة الثرى وبرودة الجو)
وأحسب أن مما ساعده على هذه القوة الوادعة وهذه السطوة الهادئة أسلوبه التهكمي وسخريته الحلوة المرة إن جاز هذا التعبير، فأسلوبه حلو يستسيغه القارئ ولا يستطيع أن يعبس له، بل لا يسعه إلا أن يضحك منه ويتأثر به؛ وهو مر لأنه يكشف عن العيب الذي يريد الشاعر الكشف عنه، فيريك منه أبشع صورة وأشدها إيلاماً للنفس. أنظر إليه حين يصف أطباء عصره كيف يضحكك من وصفهم، وكيف يؤلمك من جشعهم وما نال الناس منهم ومن الطاعون: فطيبيه الذي يصف رجل يلهج لسانه بالحمد والثناء حين يذكر أيام الوباء، وهو والطاعون إذ اجتمعا على المدينة أفنياها، هذا يحصد الأرواح، وهذا يجمع الأرباح. وانظر إليه حين يصف المرأة المزواج يعبر عن ذلك بأنها (أبلت) في عمرها خمسة أزواج، ثم يدعها ويسخر من الرجال الذين يقعون في حبائلها. . .
ولعلك لمحت فيما قرأت له أن أكثر سخريته وأشدها منصب على رجال الدين من قساوسة وشمامسة ورهبان؛ ونحن نبادر قبل أن نعرض لهذا البحث - إن أتيح لنا أن نعرض له -