الوهاب حضر ومعه عوده الحنّان فأقبلوا يتسابقون لتزويد أفئدتهم بأطايب البواكير من أغاريد الخلود.
ثم وقع ما لم يكن في الحسبان: فقد قيل إن في سنتريس مغنين يغنُّون أصوات عبد الوهاب بأطيب وأوقع مما يغنيها عبد الوهاب.
وتَنَادى أولئك المغنّون ليَباروا مطرب الأمراء والملوك، وليروضوه على الاقتناع بأن التواضع خُلُقٌ جميل، فانسحب من الميدان قبل انتهاء السهرة ليرجع إلى القاهرة بحجة أن عنده موعداً في منتصف الليل!
وعند باب الحديقة سأل عبد الوهاب عن العود ليكون رفيقه في الإياب، ثم سارت به السيارة وهو يترنم بقول أحد الشعراء:
تنظُر الساعةَ من حينٍ لحين ... ليت شعري ما الذي يستعجُلكْ
إن هذا الوصل أحلاُم سِنينْ ... فاتق الحب وَدَع ما يَشغَلُك
وانصرف جمهور المعجبين بالموسيقار عبد الوهاب وبقيتُ مع الضيوف الأعزاء نتحدث عن الآداب والفنون، ونسمع مداعبات من كان في السهرة من الجنِّيات.
ومضينا نواجه النيل وقد طلع القمر وطاب النسيم فرأينا طوائف من أدباء سنتريس يَسمُرون هناك كما كنت أسُمر مع أصفيائي قبل أن يصنع الدهر بقلبي ما صنع، وقبل أن أُحرَم من قضاء ليالي الصيف في سنتريس، فما ذقت طعماً للحياة الهادئة منذ قضت الأيام بألا أزور سنتريس إلا كما يزور طيف الخيال.
ثم هتف هاتفٌ بأن الليل قد انتصف وآن أوان الرحيل عن سنتريس
وفي القناطر الخيرية وقفنا مرة ثانية نشهد صراع الأمواج في قنطرة الريّاح المنوفي، فأخذتُ المسيو كانري من يده، واقتربت به من معركة تلك الأمواج.
ثم وَثب القلب وهو يسأل: أين الموعد، موعد فلانة، الموعد الذي عقدتْه فوق (سَدَّة الهندية) منذ أكثر من عامين؟
فأجبتُ: تلك يا قلبي مواعيد البنان المخضوب!
وتلفتُّ إلى المسيو كانري وأنا أقول: ألا يكون النوم في ضيافة هذه الأمواج الصواخب أطيب من النوم في الغُرف المغلقة النوافذ؟