للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الحقيقة اختصاص فردي لكل واحد من الناس - لأن اللذة لا تقبل الشركة والتعدد - ولكل اختصاص عيب هو الأثرة، والإصرار على التفرد، ومعاندة الناس بعضهم بعضاً في سبيل هذا التفرد - وقع التضارب والتعادي والانتقاض في كل عمل، وصار ما يبني لا يكاد يتم حتى يلقاه ما يهدمه، وبذلك كان نظام هذه الحضارة مع روعة ما يبنى يقابله نظام آخر في الهدم والتدمير، يخيف هذا بقدر ما يروع ذاك.

ولولا هذا التبرج الفاجر في هذه المدنية، ولولا هذه الشهوات التي انطلقت ترشف من مسكرات الفن المتبرج، ولولا هذه الغرائز الجامحة في طلب السيطرة لإدراك غاية اللذة، لما كان النظام الاقتصادي الحاضر في هذه المدنية هكذا مهدِّماً مستعبداً مستأثراً باغياً، ولما تعاندت القوى الدولية هذا التعاند الذي أفضى بالعالم إلى الحرب الماضية ثم إلى هذه الحرب المتلهبة من حولنا اليوم؛ وذلك في مدى خمسة وعشرين عاماً، لم يستجمع العالم خلالها قوته، ول يتألف ما تفرق، إلا ليضيع قوته مرة أخرى ويتفرّق.

إن الحضارة في هذه السنوات التي تبعث الحرب الماضية كانت ترفه عن المكدودين بالعمل ترفيهها الحُلو الغني المتبرّج لتعطي القُوى العاملة نشاطاً جديداً من النشوة، أي من الحالة التي يفقد فيها العقل والروح قدرتهما على التحكم في نظام الحياة. وأقدمت المرأة الأوربية إقدامَها الجريء فجلبت زينتها من كل خيال ومن كل فن ومن كل سحر، لتعين الحضارة على الحياة والبقاء في هذا الجوّ الذي اختارته وعملت له. وكان هذا الإقدام ضرورة طبيعية للمقدمات التي سبقت عصر الحرب الماضية، ثم للحرب نفسها. فإن المرأة التي فقدت زوجها، والفتاة التي أضلت حبيبها، والبنت التي أضاعتْ قَيِّمها من أب أو أخٍ أو عمٍ،. . . وبقيت في موج الحياة حَيرى متلَدّدة، لم تجد بدَّاً من الإقدام على الطريق المجهول بجرأة واندفاع وتهور، فلما أوضعتْ في الطريق المجهول وأسرعت خطاها جرى العالم وراءها يطالبها؛ فلم تجد بدّاً من أن تأخذ منه أكثر ما تستطيع لتجتلب لزينتها أحسن ما تستطيع، وتطارد الصيدُ للصائد في كل وجه حتى اصطدام العالم كله هذا الاصطدام الهائل الذي لا يدري إلى أين ينتهي ولا كيف ينتهي.

وستخرج المرأة من هذه الحرب أيضاً كثيرة فاتنة حائرة لا تجد أباها ولا زوجها ولا أخاها ولا حبيبها، وستكون في عينيها تلك النظرة الحزينة الضارعة التي تقول لك: أنقذني!

<<  <  ج:
ص:  >  >>