ما كفر هؤلاء وهم على بينة من أمر الأديان إلا لعلة. ففضح الله هذه اللعبة الخطرة إذ يقول:(وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون)
وكانوا (إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا) عاتبين على من يخبر المؤمنين منهم بصفات الرسول في التوراة: (أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليُحاجُّوكم به عند ربكم؟ أفلا تعقلون؟)
وكانوا يرسلون طائفة منهم إلى الرسول بعد أن يسمعوها أحكام التوراة محرفة، ويوصون تلك الطائفة ألا تقبل من التعاليم والأحكام إلا ما يوافق أهواء مرسليهم سواء وافقت الحق أو خالفته.
وكانوا يتحاكمون إليه، لا رغبة في حكومته العادلة، ولكن رجاء أن يحابيهم فيحكم بما يوافق هواهم، ثم ينقلبون عليه، ويشيعون عنه السوء من أجل هذه الحكومة: روى أن شريفاً زنى بشريفة بخيبر، وهما محصنان، وحدهما الرجم في التوراة. فكرهوا رجمهما لشرفهما فبعثوا رهطاً منهم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقالوا لهم: إن أمركم بالجلد والتحميم فاقبلوا، وإن أمركم بالرجم فلا تقبلوا. فأمرهم بالرجم، فأبوا أن يأخذوا به، فنزل قوله تعالى:(ومن الذين هادوا سماعون للكذب، سماعون لقوم آخرين لم يأتوك، يحرفون الكلم من بعد مواضعه، يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه، وإن لم تؤتوه فاحذروا) وأمر الله نبيه الكريم أن يحكم بينهم بالقسط أو يعرض عنهم، وبين له أنهم احتكموا إليه هرباً من حكم كتابهم، فقال له:(وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله؟ ثم يتولون من بعد ذلك، وما أولئك بالمؤمنين) ثم حذره أمرهم فقال: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهوائهم، وأحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك)
وكان علمهم بدين موسى سبباً في مغالطات منطقية سخيفة يريدون بها أن يبطلوا دين محمد، وأن يصرفوا العرب عنه؛ فمحمد يقول لقومه عن الإسلام:(مِلّة أبيكم إبراهيم) وهم يقولون إن إبراهيم كان يهودياً، وهو أبو العرب فواجب على أتباع محمد أن يتبعوا اليهودية التي هي دين إبراهيم، لا أن يتبعوا الإسلام، فنفى الله وصفهم لإبراهيم باليهودية في قوله:(ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً، ولكن كان حنيفاً مسلماً، وما كان من المشركين) ثم