ولا يقتصر الاضطراب على أوربا والدول المتحاربة وحدها بل يشمل الأرض بأجمعها، فمهما تباعدت حدود الدول عن ميدان الخطر فهي تشعر به في مناورات جاراتها للاستيلاء على بعض أجزائها حرصاً على فائدة عسكرية، وهي تحمسه فيما أصاب تجارتها من كساد، وما أصاب أهلها من ضيق في العيش تبعاً للرقابة على الصادر والوارد.
فلا يقتصر الحصر الإنجليزي البحري على الدول المتحاربة، بل يتعداها إلى الدول المحايدة البعيدة؛ فلكيلا تحصل ألمانيا على الواردات يجب أن تمنع الدول الأخرى من تصدير منتجاتها إلى ألمانيا؛ وهذه الفترة من الفترات التي يشعر فيها العالم أجمع بما بين دولة من رباط وثيق؛ وهي ليست التجربة الأولى من نوعها ولكن لها أشباهاً في الحروب الماضية، وإن كان العالم قد خبر أقسى تلك الدروس في الحرب الماضية عندما فرض نفس الحصر على تجارة ألمانيا.
وتكرار هذا الدرس من شانه أن يوحد بين أمم العالم، ويجعلها تتنازل عن عصبيتها، فتوحد قانونها وتجعل له من القوة ما للقوانين المحلية التي تقيد مطامع الأفراد وتنظم معاملاتهم على أساس العدل والمنفعة المتبادلة في ظل السلام، وإذا كان الأفراد قد شعروا بوجوب احترام قوانين الدولة فإن أمثال النضال الحالي والنضال السابق هي خير معلم للدول لتشعر نفس الشعور وتحترم القوانين الدولية؛ وقد فشلت عصبة الأمم في العهد الماضي في تحقيق هذه الوحدة لأن الدول لم تكن أعدت الإعداد الكافي من الناحية العقلية، ولأن بقايا النظم القديمة وأطماعها أثرت في نفسية الشعوب.
ولسنا نعني أن هذه الحرب ستكون الحد الفاصل للمنازعات الدولية، وأن العالم سيصبح إذا انتهت دولة واحدة ينظم معاملاتها قانون واحد، ولكننا نرى النضال الحالي وما جره من مصائب يضع أحد أحجار ذلك الاتحاد؛ ففكرة اتحاد دولي عالمي ليست بنت اليوم نودي بها من زمن طويل وكان أول حاكم دولي أراد إحياءها بصورة جدية اسكندر قيصر الروسيا فوضع في سبتمبر سنة ١٨٥١ أسس اتحاد مقدس يحكم الدول على ضوء التعاليم المسيحية ولكن مشروعه قبر لأسباب كثيرة.