ولترقص له فتلهبه، وتلهمه، فيعود يوحي لها. . . الأخريات لم يقبلن على الرقص إلا حين أردن أن يسفكنه ذهباً، وهذه حين أرادت العيش من الرقص استعصى عليها واستعصت عليه. . . الأخريات عيونهن مفتحة وأرواحهن غائبة، وهذه عيناها محتشمتان مغضوضتان، وروحها هي العاصفة. . .
هذه هي الفنانة الراقصة
قالت صاحبة المرقص للأستاذ (ما دامت الآنسة مصرة على الذهاب فدعها تذهب، وإني أصدقها النصح وأؤكد لها أنها غير مخلوقة لهذه الحياة الصاخبة التي نحياها، وأنه من الخير لها أن تعمل في متجر أو مصنع فهو أليق بها وأوفق لها). . .
فما عارضت هذا الآنسة وإنما هزت رأسها. وقالت:(شكراً، وإن هذا ما اعتزمته، ثم شكراً للأستاذ فقد كان رؤوفاً رقيقاً)
فضحك الأستاذ وقال:(إذا خرجت فأنا معك)
وترك عمله وخرج معها، وصحبها إلى بيتها، فاستقبلته أمها وإخوتها وكانوا ينتظرون عودتها في اشتياق وإشفاق، وكانوا يرجحون أن تزف إليه خبر فوزها في المباراة واضطلاعها بالعمل، فلما دخلت هي والأستاذ أسرعت إليها وسألتها:(ما الخبر؟) فأسرع الأستاذ بالإجابة قائلاً: (إن هي إلا سنة، إن لم تكن بعدها ابنتكم هذه سيدة الراقصات فإني لست إياي). . . فقالت الأم:(على الله، ولكن أما اتفقتم معها لتعمل عندكم هذه السنة؟) فقال الأستاذ: (سأعمل معها أنا). . .
وأخذ الأستاذ بعد ذلك يهرج مع الصغار ويعابثهم ويضحك معهم ويلعب، ثم أولم لنفسه وليمة عندهم فآكلهم وشاربهم ومازحهم، وما غادرهم حتى كان قد أشاع في نفوسهم جميعاً الفرح، والأمل، والإيمان بأن رضواناً من الله قد انساق إليهم. . . .
إلا الراقصة فقد كانت تسايرهم بما يبدو فرحاً وأملاً وإيماناً، ولكن نفسها كان فيها غير هذا يأس وقنوط وظلمات ووحشة. وكان الأستاذ يحس هذا كله ولكنه لم يكن يعبأ به ولا يخاف منه على صغيرته فقد كان يعد هذا كله من علامات التوفيق الذي كان يتوقعه.
وانتهت زيارة اليوم، وعاد إلى الزيارة في الغد وقال لها:(أما رأيت فروجاً يخرج من بيضة؟) فقالت: (رأيت) فقال لها: (وكيف رأيته؟) فقالت له: (هكذا رأيته، بمنقاره ينقب