وأنا أعلم من هذه الحكاية شيئاً لم يورده الأستاذ في هذا الباب وإن كان حدث في الحكاية. ذلك أنه بعيد كل البعد عن إتقان الحوار الريفي، ودليلي على ذلك أن الأستاذ عرض في الكتاب لمواقف أجرى فيها الحديث بين بعض أبناء الريف فما كان يزيد على جملة أو جملتين، ثم يقف الحوار الريفي بعدهما ويسترسل يكتب بلغته الغريبة الفصحى راويا بقلمه ما كان يريد أن يرويه أبناء الريف بألسنتهم، ومثال ذلك قصة المعلم ملطي التي رواها واحد من الفلاحين للأستاذ وقال له فيها إن قتيلاً قتل في الحجرة التي أعدت له. فقد مهد الأستاذ لهذه القصة بحوار بينه وبين ذلك الفلاح، فلما جاء الفرح ليروي القصة خطفها الأستاذ منه ورواها هو، وما من سبب عندي دعاه إلى ذلك إلا شعوره بالتعب من الكتابة بلغة الريف. وقد ظهر هذا التعب للمخرج - وإن لم يرد الأستاذ ذلك - فعدل عنه وعهد بكتابة هذا الحوار إلى الأستاذ محمود بيرم التونسي وقد قطع فيه الأستاذ بيرم شوطاً بعيداً وإن لم يؤلف كتاباً أو حماراً يروي فيه قصة ذلك السيناريو.
وليس هذا التعب عجيباً من الأستاذ توفيق فهو كاتب لم ينس الناس أن أحب صورة كان يحب من الناس أن يتصوروه بها هو صورة ذلك القاعد في البرج العاجي تحت ضوء المصباح الأخضر يسمع الاسطوانات الألمانية والفرنسية، ويقرأ الكتب الغربية، ويسرح بعد ذلك بين سحابات الفكر الذي لا أعلم ما هو ولا كيف تكون سحاباته. . . والواقع أن الأستاذ الحكيم من هذا النوع حقاً فهو متأثر بالقراءة بعيد عن الدنيا، وآية تأثره بالكتابة الغربية والصور الأوربية هو قوله عن نفسه في (الحمار): (فما أنا في الحقيقة دائماً سوى كوخ مقفر وسط صحراء من الجليد)، وهذه صورة روسية؛ ثم قوله على لسان واحد الفلاحين تصوره يناجي محبوبته:(إني لست ملاحاً، ولكنك لو كنت شاطئاً في بحر من البحار النائية لنشرت في الحال شراعي وانطلقت أجوب إليك البحار)، وهذه صورة إنجليزية أحس الأستاذ أنها إنجليزية فجعل المخرج وهو أحد أبطال قصته يعلق عليها بقوله: ذاك حوار من شكسبير. . .
ومع أن الأستاذ يدعي أنه من أصحاب الفكر والتأمل، ومع أني أعترف له أنه من أهل الوحدة الذين يحبون الانفراد بأنفسهم، فإني لا أظنه من أولئك المتصوفين الذين يريد أن يتصوره الناس منهم؛ فهو يقول عن نفسه: (إني لا أملك صفة من تلك الصفات التي تجذب