في الوقت الذي كان تومسكي يقص فيه حديث جدته كانت هذه تجلس أمام المرآة لتصلح من هندامها وتستكمل زينتها، فإنها رغم كبر سنها كانت تحرص على حضور جميع المراقص والحفلات باذلة عناية فائقة في اختيار ملابسها حتى أصبح منزلها كعبة الزوار يؤمه أناس من أرقى الطبقات لقضاء بعض الوقت في تسلية ومرح ولكن رغم هذا كانت الكونتس عصبية المزاج شاذة الأطوار، لا تهتم إلا بملذاتها ولا تغفر لوصيفتها (ليزابيتا إيفانوفنا) أصغر هفوة، بل أنها كانت إذا أمرتها بأعداد الشاي انتهرتها على تبذيرها في السكر، وإذا طلبت منها قراءة فصل من كتاب عدتها مسؤولة عن السخف الذي يجري به قلم المؤلف، وإذا خرجت معها في نزهة لامتها على سقوط المطر أو هبوب العواصف، وإذا اصطحبتها لمرقص أقصتها عن مجلسها إلى ركن تظل السكينة منفردة فيه، لا يشاركها أحد حديثاً أو يدعوها لرقصة. ورغم ما امتازت به ليزابيتا من جمال فاقت به سيدتها، بل وكثيرات من النبيلات لم يكن أحد ليلقي إليها نظرة أو يعيرها أي التفات، فثارت كرامتها لذاك الوضع المزري الذي أكتنف حياتها وصارت إذا أشتد بها الألم وعصفت بين جوانحها ريح الهموم، أسلمت عينيها للدمع تذرفه وقلبها للزفرات يرسلها. . . جلست ليزابيتا بعد يومين من مأدبة نلروموف بجوار النافذة تطرز، فحانت منها التفاتة إلى الطريق دون قصد، وإذ ذاك وقع بصرها على ضابط وقف بلا حراك مثبتاً عينيه تجاهها، فغضت من نظرها وعادت للتطريز. . . وما مرت بضع دقائق، حتى أطلت من النافذة بحركة آلية، فإذا الضابط لم يبرح مكانه. . . وكان ردها على هذا أن ابتعدت قليلاً وعادت إلى التطريز إذ لم يكن من عادتها مبادلة الشبان النظرات والبسمات. . . وبعد ساعتين قامت للعناية بشؤون سيدتها فلمحت على الرغم منها ذاك الضابط في مكانه.
بدا لها كل ذلك غريباً فلم تدر كيف تعلله إلى أن عادت بعد الغداء إلى عملها، ولكن الضابط كان قد ذهب فلم تنشغل بالتفكير في أمره. . . ومر يومان غادرت الكونتس بعدها قصرها بصحبة وصيفتها، وما كانت الأولى تتخذ لها مقعداً في العربة حتى أبصرت ليزابيتا الضابط عينه واقفاً عن بعد، وقد التف بمعطف حجب نصف وجهه ولكنه لم يحجب عينيه المتقدتين، فاضطربت الفتاة دون أن تدري لذلك الاضطراب سبباً.
وواظب الضابط على الحضور إلى نفس المكان كل يوم يسدد إليها بصره، فكانت إذا ما