رأته انسحبت على الفور والفضول يقتلها وشعور غريب يضطرم في أعماقها بشكل لم يسبق لها أن أحست بمثله. ولم يمض وقت طويل حتى نشأت بين الاثنين صداقة جعلت الفتاة تحس بوجوده حين تجلس إلى النافذة فتحدق فيه بضع لحظات ثم تعود لعملها وقد كست الحمرة وجنتيها، بينما ينصرف الشاب مغتبطاً بتلك اللحظات التي تفضلت بها عليه
. . . ومر أسبوع تبادلت فيه ليزابيتا مع الضابط البسمات البريئة الساذجة، وكان قلبها يخفق كلما رأته وخاصة عندما دخل تومسكي يلتمس من جدته الإذن بأن يقدم لها أحد أصدقائه إذ ظنت الفتاة أن صديقها الضابط هو المعني بالكلام. كان هرمان من أسرة ألمانية أقامت في روسيا فلما مات والده ورث عنه بعض المال ولم يشأ أن يقامر به خوف فقدانه فظل قنوعاً بما يدر عليه من ريع كان يكفيه، بل ويسمح له أحياناً بالإنفاق على أصدقائه إذا خرجوا يتنزهون، ولكنه رغم إحجامه عن المقامرة لم يجد بأساً من قضاء السهرات مع خلانه يراقبهم وهم يلعبون. . . وحين انتهى تومسكي من قصة الوريقات الثلاثة كان الفضول قد تملكه والدهشة قد عقدت لسانه، فلم يكف عن التفكير في محيطها طوال تلك الليلة. . . وفي الليلة التالية خرج يتربص في شارع سانت بطرسبرج وهو يمني نفسه بالتقرب من الكونتس كي تبوح له بسرها، ولا سيما أنها في الثامنة والسبعين من عمرها فموتها متوقع من يوم لآخر. . .
ولم يكن يقطع على هرمان حبل أفكاره أحياناً إلا الشك الذي نسج خيوطه في مخيلته فبات يخشى أن تكون قصة تومسكي دعابة جدت بها قريحته ولكنه ما لبث أن سمع هامساً يهتف في أعماق قلبه مذكراً إياه بأن وريقاته الرابحة هي الاقتصاد والعمل والمثابرة فليقصر جهوده عليها ليتضاعف دخله ويغدو من ذوي اليسار.
مرت هذه الخواطر بذهنه وهو يتنزه إلى أن استرعى نظره قصر تجلت فيه آيات الفن وازدحمت أمامه العربات بعد أن قذفت إليه بمن فيها من رجال وسيدات وضباط وآنسات فمرقوا جميعاً من بابه وسرعان ما احتوتهم قاعاته. . .
اقترب هرمان من الحارس سائلاً عن رب القصر، وما أن رد هذا ناطقاً باسم الكونتس أنافيدروفنا حتى اشتمل هرمان الذهول فهتف في نفسه:(تاالله!؟ إنها جدة تومسكي. . . إنها صاحبة الوريقات الثلاث) ووقف لحظة مشدوهاً ثم خط طريقه إلى المنزل حيث تملكه