عهده بالحياة الأزهرية، فرأى الرجل أن يلقي دروساً علنية في علم الأصول ليريهم أن الذهن الثاقب كالسيف لا يضرُّه طول العهد بالإضمار في غياهب القراب.
وما قيمة العلوم النقلية بجانب العلوم المكتسبة من فهم سرائر المجتمع؟. . . وأين الأزهري الذي يملك القدرة على محاورة مدير الجامعة المصرية في الحفلات كما يقدر الشيخ المراغي على ذلك بسهولة لا تعرف التكلف والافتعال؟
كنا مرة في المفوضية العراقية بالقاهرة، والتقى لطفي باشا بالشيخ المراغي، وأقبل الشيخ رشيد رضا يقول: هذا لطفي باشا مدير الجامعة المدنية، وهذا الشيخ المراغي مدير الجامعة الدينية، والدين فوق المدنية. فابتسم لطفي باشا وقال: هذا حق ما دام الشيخ هنالك. وأجاب الشيخ المراغي: ما دام لطفي باشا في الجامعة المصرية فهي الشقيقة الرءوم للجامعة الأزهرية، وما كان الدين إلا رسول الحضارة والفهم والعقل. ثم تواتر الحديث بين الرجلين في غاية من التلطف والترفق والعطف.
ومن مزايا هذا العصر في مصر أن تكون الجامعة الأزهرية - وهي على الضفة الشرقية للنيل - تحت رياسة رجل يتجه أحياناً نحو الغرب، وأن تكون الجامعة المصرية - وهي على الضفة الغربية للنيل - تحت رياسة رجل يتجه أحياناً إلى الشرق.
وبذلك لا يكون من الشر أن يقال إن مصر بلد الغرائب، لأن الغرائب لا تجتمع في مصر إلا وهي صورة من الانسجام المقبول في شرعة الأدب والذوق.
ماذا أريد أن أقول؟ أنا أريد القول بأن الأخلاق الحقيقية للعظماء هي أجل وأدق من أن يفهمها عوام الناس، وما تعلَّق متعلقٌ بهفوة صورية لرجل من الأكابر إلا وهو غافلٌ جهول، فما تسمح قوانين الحياة بأن يسود رجل إلا وهو على جانب من متانة الخُلُق، وسجاحة النفس، ورصانة الطبع، وطهارة القلب، ولو كره المتزلفون إلى المجد بالوصولية والضَّعة والاستخذاء.
دلوني على عظيم واحد أُثِر عنه الانقياد لهواه في صباه.
ما نبغ في الدنيا نابغٌ إلا بعد أن قدم شبابه قُرباناً للمجد. وكان أشياخنا يقولون:(أعط العلم كلك يعطك بعضه). فما بالُ بعض الشبان في مصر أو في غير مصر يعرفون مراتع اللهو قبل الأوان فتزدان بوجوههم مقاصير الملاعب والمراقص، ويكون لصباهم تاريخ في حياة