في سنة ١٩٢٧ خطر للدكتور طه أن يغمز أساتذة اللغة العربية في أحد دروسه بالجامعة المصرية فقال: كيف يجوز لهؤلاء أن يتولوا تدريس الأدب في المدارس الثانوية أو العالية وليس فيهم من تصفح ديوانين اثنين من دواوين الأدب العربي؟! فنهضتُ وقلت:(أرجو استثنائي من هؤلاء، فأنا أحفظ ثلاثين ألف بيت من الشعر العربي وأستطيع إنشادها جميعاً في أي وقت).
فابتسم الدكتور طه وقال: أنا لا أقصد أساتذة الجامعة المصرية. ولم يكن كلامي ضرباً من التحدي المؤقت، وإنما كان حقاً من الحق. وما اكتفيت بالثلاثين ألفا إلا إشفاقاً على طلبة الجامعة، فقد كانت مختارات البارودي من بعض محفوظاتي، وكنت أحفظ دواوين برمتها من الشعر الفرنسي، وقد حفظت معظم كتاب تليماك عن ظهر قلب في سنة ١٩١٩ وكان المسيو كليمان حدثني أن أسلوب فنلون هو المطمع بالممتنع. ولم أكن أعرف نظام الجذاذات عند الشروع في تأليف كتاب (الأخلاق عند الغزالي) فكنت أرجع إلى الشواهد في مؤلفات الغزالي بغير احتياج إلى دليل، فقد كانت مؤلفاته مسطورة في ذهني بأبوابها وفصولها وصفحاتها بحيث أجد الشاهد حين أشاء، بلا عناء.
وما استطعت ذلك كله لأن ذاكرتي أقوى من سائر الذاكرات، أو لأني أذكى من سائر الناس، وإنما استطعت ذلك لأني لا أعرف المسامحات في صيف أو شتاء. وما أذكر أبداً أني انقطعت عن الدرس في يوم من أيام المواسم والأعياد، حتى أيام البواخر قرأت فيها أشياء وكتبت أشياء. وهذا بالتأكيد حال كثير من الأدباء في هذا العهد، وقد يكون فيهم من يفوقني في الصبر على مكاره الدرس والتأليف، فليست الحظوظ أو الظروف هي التي جعلت بعض أدبائنا أئمة مرموقين في الأقطار العربية والإسلامية، وإنما هو الكدح الدائم والكفاح الموصول.
أما بعد فبأي حق يجوز لطالب العلم أن يجلس في أحد المشارب وفي يده كأس؟
وبأي حق يتسامى الشبان الظرفاء إلى السيطرة الأدبية والعلمية وهم يدفعون مهرها من الكسل والخمود والاعتماد على وساطة الشفعاء؟
من حق كل إنسان أن يتخير مصيره كيف شاء، فلن يكون الناس جميعاً نوابغ وعبقريين.