لم ألق أحداً في انتظاري على محطة المنصورة، فأين الزيات؟ وهل يشق عليه أن يُغبر قدميه بخطوات قصار لاستقبال صديق قضى في الطريق ثلاث ساعات، وإن مرت كومضة البرق في صحبة الأستاذ عبد العزيز صقر شاهين؟
وأتلفتُ فأرى الأستاذ محمود البشبيشي، الصديق العزيز الذي لم أر منه غير كرم الأخوّة وصدق الوداد، ثم أنظر فأرى الأستاذ عبد اللطيف علي، وهو مدرس فاضل قد مكنه التنقل من التعرف إلى ملامح البلاد المصرية.
هذه القهوة المنشودة، وتلك الكافورة الغيناء، وذلك الأستاذ محمود زناتي، فأين الزيات؟
لقد ذهب الشقيُّ إلى (رأس البر) وخلاّني، فهل أعود إلى القاهرة قبل أن أنفض عن ثيابي غبار الطريق؟
وما هي إلا لحظة حتى طاب المجلس وحلا الحديث، وأقبل المنصوريون فأحاطوني بوداد يذكّر بوداد أهل بغداد، حتى كدت أتوهم أني بين الرُّصافة والجسر، أو فوق الجزرة في مواجهة كلواذ. على ليلتي بالجزرة أطيب التحية، وأزكى السلام!
وأنظر في الساعة من ثانية إلى ثانية ومن دقيقة إلى دقيقة لأرى كيف أفرّ إلى دار تعودت المضي إليها بلا دليل غير وحي القلب، ولكن شيطانين منصوريين يصدّان عن سبيل القلب ويأبيان إلا مرافقتي حيثما توجهت، ونعوذ بالله من كيد الشياطين.
فإن كان حظي في تقبيل تلك الجدران قد ضاع فحسبي من العزاء أن أطمئن إلى أن هواي لم يزل من السر المصون.
أنا في المنصورة في صحبة القمر والنيل والنسيم، وفي ضيافة الأستاذ محمود زناتي وبرفقة جماعة من أفاضل الأدباء والمدرسين، فإن كان في الدنيا من يصدّق أن الحديث الجذّاب قد يكون أطيب الطيبات وقد يُنسى القلب لواعج هواه فليعرف أن سهرتنا كانت من تلك الطيبات العِذاب. ألم أسهر حتى يبلل الندى ثيابي على نحو ما كان يصنع معي في سهرات بيروت؟
ثم أستيقظ على صفير القطار، وهو يزفر زفرة الشوق إلى القاهرة فأهب لأداء بعض الواجبات، ثم أتجه إلى القاهرة قبل أن تصل الشمس إلى كبد السماء.